سويسرا تفقد عقلها وعقلانيتها

04:11 صباحا
قراءة 3 دقائق

ما بقي من مآذن مساجد المسلمين في سويسرا يحق لها أن تصدح بذلك النداء إيذاناً بموت الحداثة فيها وقريباً في موتها في كل أوروبا . فقرار غالبية مواطني سويسرا بالموافقة على مقترح ظالم بمنع بناء منارات المساجد يضرب عدة أسس قامت عليها حداثة الأنوار الأوروبية .

فعصر الأنوار افتتح بفصل الدين عن الدولة ولكنه أكد حرية الإنسان في معتقده الديني وفي إقامة شعائر ذلك الدين طالما أن ذلك لا يؤذي الآخرين، والمسلمون في سويسرا لم يفعلوا غير ذلك . وعندما بنوا منارات مساجدهم فلأنها تمثل رمزاً دينياً إسلامياً ذاتياً، مثله مثل أبراج أجراس الكنائس أو أية إشارات معمارية في معابد اليهود والبوذيين وغيرهم .

وإذا كان استعمال المآذن يؤذي الآخرين فلتوضع الضوابط لذلك، ولن يعترض أحد . ولكن في هذه الحالة هل ستوضع ضوابط مماثلة لما تحدثه أجراس الكنائس من ضوضاء لا يتوقف طيلة ساعات يوم راحة الناس، أي يوم الأحد؟ وإذا كان ارتفاع المآذن هو المشكلة، وهو ما أشارت إليه المستشارة الألمانية عندما قالت إنها ليست ضد المآذن طالما أن ارتفاعها لن يزيد على ارتفاع أبراج أجراس الكنائس، فحلها هو أيضاً تنظيمي معماري بحت .

ولم يكن قرار الأغلبية السويسرية قاتلاً للحرية الدينية وبالتالي مشوهاً لمبادئ المواطنة والديمقراطية، وهي الأخرى أحد أسس الحداثة الأوروبية فقط، وإنما كان استهزاء بالعقلانية نفسها . فأين العقلانية، ورديفتها الموضوعية والعدالة في النظر للأمور، من استفراد دين واحد لضبط شعائره ورمزياته من دون مراجعة لنفس الجوانب عند بقية الأديان؟

إذن، لقد خدشت الحرية وحقوق المواطنة المتساوية والديمقراطية التي تنادي بعدم ظلم الأكثرية للأقلية والعقلانية في قرار واحد اتخذته غالبية المصوتين السويسريين . والواقع أن سويسرا، مثلها مثل بقية أوروبا، تتعايش مع حداثتها طالما أنها في بحبوحة من العيش وطالما أن أهلها يعيشون رغد الحياة على حساب الآخرين . ولكن ما إن تواجه مجتمعاتها قضايا تثير أعصابها وتخل باتزانها حتى تفقد عقلها وعقلانيتها وإنسانيتها . فسويسرا التي عاشت في بحبوحة تخزين أموال الآخرين في بنوكها وجني الأرباح الفاحشة من احتضان المتلاعبين بأنظمة الضرائب في بلدانهم والقبول بأموال سراق الشعوب من الفاسدين والاستبداديين فتحت عيونها مؤخراً على رفض دولي لممارساتها تلك، وأصبحت بنوكها تحت ضغوط هائلة لتبديل أنظمتها المالية . من هنا شعور مجتمعها بالأخطار وفقدانه لاتزانه . وكعادة المجتمعات الغربية، ما إن تشعر بمصاعب الحياة حتى تفتش عن ضحية تسفك دمها وذلك من أجل تهدئة نار الغضب في نفوس أبنائها . ولقد وجدت الضحية في هذه المرة: إنهم مسلمو ومساجد سويسرا .

والواقع أن القرار لم يكن حكومياً وإنما شعبي، وهو حادث يذكرنا بقول شهير للفيلسوف هيجل من إن الشعوب هم الجهة في الدولة التي لا تعرف ما تريد . في هذه المرة كانت الحكومة السويسرية تعي حجم الفاجعة الأخلاقية والقيمية التي ستقود إليها الموافقة على مقترح العنصريين الأصوليين السويسريين . والذي خيب مفهوم الأخوة الإنسانية في حداثة الأنوار هو الشعب السويسري .

ما الذي بقي من الحداثة الأوروبية ومن عهد الأنوار حتى نفجع بما حدث في سويسرا؟ فديمقراطية الأنوار كادت تقضي عليها الفاشستية العنصرية في بلدان من مثل ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، وكادت تنسفها الدكتاتورية الشمولية في بلدان شرق أوروبا . والمساواة والأخوة في الإنسانية جعلتهما نكتة مضحكة في عهود الاستعمار الأوروبي للعالم كله تقريباً . والعدالة داستها أقدام الرأسمالية الجشعة المتوحشة في العالم كله والتي مؤخراً أنهت دولة الرعاية الاجتماعية الأوروبية التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية . وأسس الفكر العقلاني تدق أبوابه هلوسات ولا عقلانية الفكر الما بعد الحداثي . والانتشار المذهل للأصولية المسيحية المتعصبة في كل مجتمعات أوروبا يهدد بموت فصل الدين عن أمور السياسة وعن الدولة .

لم يبق من نار الحداثة والأنوار في أوروبا إلا رماد الحطب الذي أحرقته عبر ثلاثة قرون . وما حدث في سويسرا هو جزء من ذلك الرماد .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"