سياسة «الصفقات» بديلاً عن العولمة

02:39 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي
لم تبدأ العولمة في تاريخ محدد، وعلى يد زعيم أو دولة، أو بقرار من أحد، حتى تنتهي بمثل هذا القرار، وعلى يد مثل هذا الزعيم، أو الدولة. إنها مسار تاريخي طويل بدأ مع التبادلات التجارية الأولى بين المجموعات البشرية، وراح يتطور مع الاكتشافات العلمية، والتطورات التكنولوجية التي قلصت المسافات، وأزالت الحدود. وبعد انتهاء القطبية الثنائية في بداية تسعينات القرن المنصرم بدأت بالانتشار مفاهيم مثل العولمة، والأقلمة، والتبادل الحر، والشراكات الاستراتيجية، وغيرها، على وقع مسارعة دول صناعية كثيرة إلى توقيع اتفاقيات اندماج وتبادل حر وغيرها (نافتا، ميركوسور، آسيان، آبيك، شنغهاي.. الخ. من دون أن ننسى الاتحاد الأوروبي). كذلك ولدت في العام ١٩٩٤ المنظمة العالمية للتجارة التي راحت تنخرط فيها تباعاً كل دول العالم، على وجه التقريب.
ومع وصول دونالد ترامب إلى سدة رئاسة أعظم دولة في العالم، وأكثرها ليبرالية و«عولمة»، يبدو أن هذا المسار يتعرض إلى فرملة تهدده بالتوقف. هناك من المحللين من بدأ يعتقد أن العولمة باتت خلفنا، وأن العالم سيعود إلى زمان الحمائية والتقوقع الاقتصادي. ويعتمد هؤلاء على خطاب ترامب الانتخابي الذي كرسه خطاب التنصيب الذي أمل كثيرون بأن يأتي أكثر اعتدالاً وواقعية.
لقد بات واضحاً للجميع أن ترامب يفضل «الصفقات» المربحة للولايات المتحدة على الشراكات الاستراتيجية طويلة الأمد. إنه يفكر كرجل أعمال، وليس كرجل دولة، هدفه التوقيع على اتفاقات مع نظرائه زعماء الدول، كما لو كانت الولايات المتحدة شركة كبرى يبحث لها عن صفقات، وأعمال مربحة. من هذا المنظور ينظر ترامب إلى المسائل الدولية، ببراغماتية مفرطة بعيداً عن الأيديولوجيا، كما يقول عنه مايكل غوف الذي أجرى معه مقابلة لمصلحة صحيفة «تايمز».
ترامب لا يحب حلف الناتو، لأن بلاده تتحمل فيه العبء المالي الأكبر. ويعتبر أن الزمن تخطاه لأنه لم يجر تكييفه لمهمة محاربة «الإرهاب الإسلامي». لا يهم أن الحلف الذي تأسس في العام 1949 للدفاع عن أوروبا في وجه الكتلة الشيوعية، كان أحد دعائم الاستراتيجية الأمريكية في العالم، وأن كل الرؤساء الأمريكيين السابقين اتفقوا على أنه «الحلف الأنجح في التاريخ». ويرى ترامب ضرورة القطيعة مع هذا التوجه الأمريكي الأساسي القائم منذ ثلاثة أرباع القرن، لمصلحة التزامات عابرة، وصفقات انتهازية.
لقد حذر أوباما البريطانيين من البريكست، لكن ترامب هنأهم عليه، وتمنى أن تحذو شعوب أوروبية أخرى حذوهم، وصولاً إلى انفراط عقد الاتحاد الأوروبي. ذلك أنه يفضل الصفقات العابرة مع دول أوروبية بشكل ثنائي، وليس مع اتحاد أوروبي وجد في الأصل لمنافسة الولايات المتحدة تجارياً على الساحة الدولية.
وخلال حملته الانتخابية، وعد ترامب بفرض رسوم جمركية تصل إلى 35% على الواردات من الصين، إذا لم تتخذ هذه الأخيرة إجراءات مثل وقف «التلاعب» بعملتها، ووقف سياستها التوسعية في بحر الصين الجنوبي، وغيرها. كذلك هدد، من الزاوية التايوانية، بالعودة عن سياسة «الصين الواحدة» التي اتبعها كل أسلافه منذ تطبيع العلاقات الأمريكية الصينية على يد إدارة الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون، في سبعينات القرن المنصرم.
وبالنسبة إلى اتفاقية «باريس كوب 21» الموقعة في ديسمبر/كانون الأول 2015 وعد ترامب بتمزيقها، ووضع على رأس وزارات الطاقة والبيئة من لا يؤمن بكل الأطروحات العلمية حول غاز الدفيئة، والاحترار، والتغير المناخي، وما شابه.
إذا حاول ترامب فعلاً تنفيذ وعوده الانتخابية، ويبدو أنه سيفعل، بدليل خطاب القسم الذي جاء امتداداً لهذه الوعود، وإذا نجح في فرض رؤاه، فإن تغيراً جذرياً سيطرأ على المبادئ التي تأسس عليها النظام الدولي منذ عقود طويلة.
قالت هيلاري كلينتون إن سياسة ترامب التجارية سوف تطلق حرباً تجارية. هذه الحرب بدأت بالفعل منذ أن شرع دان ديميكو، الرئيس السابق لمجموعة نيوكور للحديد والصلب، بمتابعة وتدوين ما يسميه «تلاعبات» الشركاء التجاريين لبلاده، وعلى رأسهم الصين المسؤولة، في نظره، عن الانحطاط الصناعي الأمريكي.
لقد وضع ترامب الحمائية في قلب معركته الانتخابية، مع إعلانات صادمة، مثل التهديد بعقوبات جمركية ضد الصين والمكسيك والوعد بإعادة التفاوض والخروج من اتفاقات تجارية كبرى، وربما من المنظمة العالمية للتجارة. ويتفق المحللون على أن تكلفة مثل هذه الحرب التجارية على الولايات المتحدة ستكون خسارة ملايين فرص العمل، ومفاعيلها السلبية ستكون كبيرة جداً على الاقتصاد الأمريكي أولاً، والاقتصاد العالمي من بعده.
العولمة مسار ربما يستطيع ترامب وضع مكابح تحد من تسارعه لكنه لا يستطيع وقفه، وهو يستطيع عزل الولايات المتحدة عن العالم، لكن بتكلفة قد تصل إلى حد اتخاذ «الاستابلشمنت» القرار بعزله عن الرئاسة.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"