صعود ورقة الكوكا وسقوطها

05:05 صباحا
قراءة 3 دقائق
جميل مطر

لا أخجل من الاعتراف بأنني انجذبت ذات مرحلة إلى شخصية رئيس اتحاد مزارعي نبات الكوكا في بوليفيا. رجل فقير من أصول هندية يقود فلاحين من الأصل نفسه في مواجهة الإمبراطورية الأمريكية، نصبته عاصمتها واشنطن خصماً، بل نصبوه عدواً يضمر الشر للشعب الأمريكي لإصراره على الاستمرار في غرس وحماية شجرة نبات الكوكا. كانت الولايات المتحدة قد قررت أن شجرة الكوكا التي يزرعها الفلاحون في بوليفيا لأغراض عديدة ليس أقلها شأناً العلاج، يجري تصنيعها وتهريبها ليستهلكها المدمنون الأمريكيون، ثم قررت أمريكا منفردة فرض حصار دولي وتأليب المؤسسات الدولية على بوليفيا وحكومتها، ممثلة في شخص رئيسها إيفو موراليس. أعود لتأكيد حالة انجذابي «التعاطفي»، إن صح التعبير للرجل، وما يمثله وانجذابي الأكاديمي للحالة البوليفية في منظومة إقليم أمريكا اللاتينية بشكل خاص وبين دول العالم النامي بشكل عام.
خمسون مليوناً من سكان أمريكا الجنوبية، لم يصل واحد منهم إلى منصب مهم من مناصب السلطة السياسية في أي قطر من أقطار القارة قبل أن يتولاه موراليس في عام 2006. كان موراليس واحداً من نشطاء الحركات الاجتماعية والسياسية داخل مجتمعات السكان الأصليين، أي المنتسبين لسلالات قبائل الهنود الحمر، هم سكان القارة وقت وصول الرجل الأبيض غازياً ومستوطناً ثم مصاهراً.
عاش موراليس فقيراً مضطهداً مثل غيره من شباب السكان الأصليين، إلى أن تجاوزت الولايات المتحدة والقوى الحاكمة في بوليفيا كل الحدود الممكنة، لمنع السكان من التوسع في زراعة نبات الكوكا. قامت ميليشيات بحرق أشجار الكوكا في بعض المقاطعات، وتدمير معامل صنع عجينة الكوكا وإعدادها للتصدير. انتفض الفلاحون ونهض موراليس بمهمة تجميع الفلاحين في اتحاد لمزارعي الكوكا، ومن هناك وبمساعدة الاتحاد انطلق موراليس إلى ساحة السياسة منافساً الطبقة السياسية، التي احتكرت السلطة وهيمنت على المؤسسات الاقتصادية على امتداد قرنين أي منذ حصول بوليفيا على الاستقلال في مطلع القرن التاسع عشر.
بدأ الرجل نشاطه السياسي لافتاً. انتبه مبكراً إلى أن السياسات اليمينية التي سهلت للشركات الكبرى عملية استنزاف ثروة بوليفيا، لن تسمح بتحقيق أهدافه في الاستقلال الوطني وتنويع مصادر العمل والثروة في البلاد وتحرير شعب بوليفيا من أسره وحرمانه من التعليم ومن وظائف احتكرتها الأقلية البيضاء.
لم تتح لي الفرصة لزيارة بوليفيا، سواء في عهد حكم وهيمنة الرجل الأبيض أو في عهد حكم الرجل الأصلي وصراعه مع أجهزة الإمبراطورية الأمريكية وامتداداتها في الاقتصاد والمجتمع البوليفي. فرصة كادت تحين ولم تحِن.
هناك في بوليفيا لمع، منذ الشرارة الأولى، نجم المواطن الأرجنتيني أرنستو جيفارا دي لا سيرنا، وشهرته شي جيفارا، وهناك في بوليفيا وقع في أسر مندوبي وكالة الاستخبارات الأمريكية. عذبوه وتبادلوا إطلاق الرصاص عليه مدة يومين. حطموا النجم ولم ينطفئ، أو هكذا أتصور حسب ما يصلني، حتى الآن، عن ترددات سيرته في عديد القارات. أحب جيفارا بوليفيا حباً عميقاً، كانت لها مكانة كبيرة في نفسه.
إيفو موراليس مختفٍ. فاز، في الانتخابات لولاية رابعة في رئاسة الجمهورية. الجيش رفض هذه النتيجة، استناداً إلى تقرير من مقر منظمة الوحدة الأمريكية في واشنطن يتحدث عن تزييف في نتائج الانتخابات، ثم طلب من موراليس تقديم استقالته، وعلى الفور قامت عناصر مسلحة من الخطرين على الأمن بالهجوم على بيته وتحطيم محتوياته. حسب الأنباء الواردة ساعة كتابة هذه السطور لايزال موراليس مختفياً. سمعت أنه عاد إلى القرية أو المقاطعة التي خرج منها حاملاً ورقة الكوكا قبل ما يزيد على عشرين عاماً. عاد إلى شعبه الذي ارتفع بالفعل مستوى معيشته ومستوى تعليمه ومستوى شعوره بالكرامة في مواجهة فلول الطبقة السياسية الفاسدة. هذه الطبقة تعود الآن تحمل ورقة اتهامات لموراليس، تحوي بنوداً بعناوين استبداد وتزوير انتخابات واستفتاء سمح له بتجاوز شرط الفترتين في منصب الرئاسة.
أليس صحيحاً أنه في أي مكان في العالم الثورة فيه ناشبة أو كامنة، لا توجد حلول سهلة لتبريد غضب الشعوب وتهدئة ثوراتها؟ تأمل معي صورتي لبنان والعراق، هناك كما في غيرهما، الأزمات تفاقمت حتى استحكم خناقها.
أليس صحيحاً كذلك، وللأسف، أنه في كل مكان في العالم كادت المجتمعات تخلو من رجال دولة على مستوى غضب الشعوب وتعقيدات الأزمة الاقتصادية واتساع الفجوة بين أغنياء تزداد ثرواتهم وفقراء تتراكم أسباب فقرهم وأغلبية شبابية، الصبر على الفقر والظلم ليس أحد فضائلها؟ ..بوليفيا مثال.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"