طوبى للرحماء المجادلين بالتي هي أحسن

05:04 صباحا
قراءة 3 دقائق

عاصم عبد الخالق

ليس أفضل من دولة تضم نحو 200 جنسية لتكون نموذجاً حياً وتجسيداً واضحاً للتعايش والتعاون والحوار والتفاعل بين ثقافات وأعراق وديانات مختلفة.

في مواجهة حقائق التاريخ، وإرادة العقلاء، وبصيرة الحكماء، لم تصمد فكرة صراع الحضارات أو صدامها كتفسير واحد وحتمي لحركة وتفاعلات التاريخ وعلاقات الأمم. التاريخ بأحداثه وحروبه وصراعاته قديماً وحديثاً أثبت أن الصدام ليس قدراً محتوماً بين أصحاب الديانات والثقافات والحضارات المختلفة. هناك عشرات الحروب والنزاعات نشبت بين أمم وبلدان تنتمي لنفس الحضارة لأسباب عدة.

تلك واحدة من الثغرات الأساسية التي أدت لتصدع نظرية صمويل هنتنجتون الكاتب الأمريكي الشهير مؤلف الكتاب المعروف باسم «صراعات الحضارات»، والذي أصبح سفراً يهتدي بتعاليمه دعاة الحرب من المحافظين الجدد في الولايات المتحدة. لم يكن هنتنجتون هو من صك هذا التعبير، فقد سبقه المستشرق الأمريكي الأشهر برنارد لويس عندما أصدر كتابه الشهير «جذور الغضب الإسلامي». من يومها صار الإسلام هو المرادف اللغوي والسياسي لكلمة العدو لدى دعاة الحرب، ومروجي الكراهية في الغرب. وصارت الحضارة الأولى بالصدام مع الغرب المسيحي- اليهودي هي الحضارة الإسلامية رغم أن هنتنجتون قسم العالم إلى نحو ست حضارات أخرى مختلفة مع الغرب.

وقد لعبت هجمات سبتمبر/ أيلول 2001 الإرهابية دوراً مهماً في شيوع وانتشار أفكار اليمين المتطرف بشأن «الخطر» الإسلامي وارتباط الإرهاب بالإسلام، وترويج أفكار مغلوطة وظالمة عن الإسلام والمسلمين. ثم كان الرد الأمريكي بإطلاق الحرب العالمية على الإرهاب، وازداد الموقف سوءاً بسبب تصريحات صدرت بقصد أو بدون قصد من سياسيين غربيين عن حرب صليبية جديدة.

ومن العدل أن نذكر أن عشرات المفكرين والمسؤولين الغربيين تصدوا لهذا التوجه الخطِر، وقاوموا انجراف النخبة الفكرية إلى مستنقع الكراهية بفعل حالة الغضب والخوف التي فجرتها هجمات سبتمبر. تصدى هؤلاء النبلاء بجسارة لمحاولات إحداث وقيعة تاريخية بين الغرب والمسلمين. وقاوموا فكرة صدام الحضارات، وكشفوا ثغراتها وتهافتها وأخطاءها.

لا يختلف أصحاب الضمائر اليقظة والقلوب العامرة والبصائر المستنيرة الذين خاضوا معركة الأمس عن إخوانهم الذين يستكملون اليوم مسيرتهم المضيئة عبر تنظيم «ملتقى الحوار العالمي بين الأديان» في أبوظبي.

النبتة المباركة التي غرسها عقلاء الأمس يرويها حكماء اليوم بمبادئ المساواة والأخوة والتسامح والإخاء. ومن المؤكد أن نداء الأخوة الذي ينطلق من أبوظبي سيصل صداه إلى أنحاء العالم من خلال آلاف المشاركين والمتابعين للملتقى حضوراً أو عبر وسائل الإعلام. ليس أفضل من دولة تضم نحو 200 جنسية لتكون نموذجاً حياً وتجسيداً واضحاً للتعايش والتعاون والحوار والتفاعل بين ثقافات وأعراق وديانات مختلفة. لكن بفضل بيئة حياة صحية، ومجتمع طيب متفتح ومعتدل، ونظام فريد من نوعه أمكن لكل هؤلاء أن يتعايشوا بسلام وهدوء وتآلف.

نقدر ونحيّي مواقف ومبادئ التسامح والحوار التي ينادي بها ضيفا المنتدى الكبيران: الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر، والحبر الأعظم البابا فرنسيس بابا الفاتيكان. ومع ذلك يجب أن نقر بأن مهمة الحوار ونشر مبادئ التعايش ليست مسؤولية هذين الرمزين الجليلين فقط ولا غيرهم من القادة الدينيين والسياسيين فحسب، ولكنها مسؤولية أخلاقية للمجتمعات ككل. ولذلك فإن المهمة ليست سهلة.

الحوار ليس مجرد مناقشات بين النخب في القاعات المكيفة، ولكنه رحلة فكرية عاصفة وشاقة يجب أن يخوضها أصحاب الديانات والثقافات المختلفة للمواجهة من الذات أولاً، وتنقية المعتقدات المتوارثة مما يشوبها من نتوءات تمنع التقارب مع الآخر أو الاعتراف به. في هذه الرحلة ستكون هناك محطات مهمة يجب المرور بها، أهمها تصحيح المفاهيم الخاطئة عن الثقافات والديانات الأخرى، وإسقاط الأحكام المسبقة، ونبذ العنف، ومحاربة الجهل، ونشر الوسطية، والإيمان بالمساواة. عندما يتحقق هذا سيكون الطريق معبداً لبدء رحلة حوار مشتركة تفضي إلى عالم أكثر سلاماً وأمناً واستقراراً.

نفس هذه المعاني صاغها بأسلوب آخر الشيخ أحمد الطيب عندما قال أمام ملتقى حكماء الشرق والغرب بمدينة فلورانسا الإيطالية في يونيو/ حزيران 2015: «آن الأوان لحكمة الحكماء أن تغرد في الشرق والغرب، وتتغنى بسلام يسود عالماً أنهكته الحروب والنزاعات؛ أملاً في إسعاد البشرية وإنقاذ الإنسانية من دمار يلوح شؤمه في الأفق البعيد».

من نفس المعين انتقى البابا فرنسيس كلماته عندما زار القاهرة عام 2017 حين قال: «من المستحيل الجمع بين العنف والدين، وبين الإيمان والكراهية. لنعلن معاً قدسية كل حياة بشرية ضد أي شكل من أشكال العنف.. نحتاج إلى بناة سلام لا إلى محرضين على الصراعات، وإلى رجال إطفاء لا إلى مشعلي نيران، وإلى دعاة للمصالحة لا إلى مهددين بالدمار».

ما أروع كلمات الحكماء، ومن أبوظبي سيُنيرون العالم بحكمتهم. من هنا تشرق بشائر الخير، وتصدح نداءات التعايش والإخاء. مرحباً بعالم أفضل يصنعه المؤمنون بالحكمة والموعظة الحسنة. طوبى للرحماء.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"