عامان زاهيان في تاريخ دبي والإمارات

23:24 مساء
قراءة 7 دقائق
لا أعرف إن كنت قائداً جيداً أم لا، لكن ما أعرفه أني الآن في مركز قيادي، وعندي رؤية واضحة للمستقبل تمتد الى عشرين أو ثلاثين سنة القادمة، لقد اكتسبت هذه الرؤية من والدي المغفور له الشيخ راشد بن سعيد، وأنا أسير على خطاه، وأتابع كل شيء، أذهب للمواقع وأراقب، أقرأ الوجوه، أتخذ القرارات المناسبة، أنطلق بخطى سريعة لتطبيق هذه الأمور بحماس وعزيمة عاليين. (الشيخ محمد بن راشد) جملة من السنين والأعوام في عمر الشعوب ليست بالتي تحسب بالعد الزمني وحده، ولكن المؤرخ الذي يتولى في تأريخة للأيام، يتوقف عند فترات زمنية أو نقاط معينة تم إرصادها في هذه الفترات، ليسجل المؤرخ رأياً ويشير الى شيء يثير اهتمامه.ولقد مرّ عامان على دبي 4 يناير 2006 4 يناير ،2008 ومرور عامين ليست عدّهما بالذي يثير الاهتمام، ولكن ما حدث في هذين العامين هو محط الاهتمام، لأن هذين العامين، يعتبران عامين زاهيين ومهمين في تاريخ دبي، هذه الإمارة التي تصنع للإمارات تاريخاً مليئاً بالاضاءات.. فهي الامارة الأولى من الإمارات السبع التي تتكون منها دولة الإمارات العربية المتحدة، وضعت أسساً للتجارة والعمران في هذه المنطقة، واستطاعت ان تدخل في منافسة تجارية وعمرانية مع بلدان أكبر في الامكانيات البشرية والمادية، وذلك منذ بداية القرن الماضي، القرن العشرين، وتكوّن مجتمعها في النواحي الديموغرافية من التعددية في الثقافات، كل فئة منها تتقبل الآخر وتستسيغه وتحاول التجانس معه، وبهذا عرفت دبي خلال المائة عام الماضية أنها بلد التعددية ومحطة التجارة للصادر والوارد في هذه المنطقة.وبانتهاء منتصف القرن، القرن المنصرم، ودخول النصف الثاني من القرن، أصبحت دبي المنطقة الأولى في هذه البقعة من العالم تخرج بخطوات محسوبة وثابتة من مجال التقليدية والقبلية الى مجتمع عصري، وذلك بالاعتماد على المؤسسات وايجادها لتحل شيئاً فشيئاً محل التقليدية، فقد أقيمت المحاكم الحديثة، والشرطة الحديثة، والبلديات الحديثة ونظم الجمارك الحديثة، وغرف التجارة الحديثة، ووضعت اللبنات الأولى للبنية التحتية، كالماء والكهرباء وتخطيط المدينة ونظم البناء الحديثة والمجاري والطرق وتجميل المدينة، وإقامة المكتبات وبناء المدارس الحديثة وإقامة الجسور والانفاق وغير ذلك من الخدمات، كل ذلك والستينات من القرن الماضي لم تكن قد أفلت بعد، وبهذا يتضح إن دبي كانت مهيئة، والسبيل أمامها ممهد لكي تتولى القيادية في العمران والبناء في الإمارات والمنطقة الخليجية كلها.وكل مسطر للتاريخ يؤكد أن بداية التسعينات من القرن المنصرم وما تلتها من السنين حتى اليوم، ان هذه الأعوام التي مرت والتي تقل عن عقدين من الزمن شهدت تغييراً منقطع النظير في المجال التنموي والعمراني برمتها ولم تعد المقارنة ممكنة بين الماضي وبين الحاضر، بل لا بد للمؤرخ إن يخصص سفراً متكاملاً لما تم وما حدث في دبي وبالتالي في الإمارات خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة التي لا تعد بالشيء في عمر المجتمعات البشرية والشعوب.الشيخ محمد بن راشد.. القيادة الرشيدة.. في جميع مراحل التاريخ الإنساني، تؤكد الوقائع إن الأمجاد تخلقها القيادات القوية، وعليها المعول الأول في استنهاض همم شعوبها للسير نحو العلى، فإذا وجدت القيادة القوية والرشيدة وجد شعب قوي ورشيد.. وهكذا العكس، القيادة الضعيفة وغير الرشيدة، معناه شعب ضعيف وغير رشيد.. والقيادة القوية لا تعني التسلط والاستبداد والهيمنة القسرية والديماغوجية في القول والفعل وخلق هالة من البهرجية والديكورية التي تخفي السيئات وتظهرها بمظهر الحسنات، من تلك التي ظهرت في بعض المجتمعات وذهبت جفاء كما ذهب الزبد، ولكن القيادة القوية، تعني الرشادة وتعني تربية جيل من الرشيدين وتدريبهم على العمل الصالح للمجتمع أي العمل النافع للناس، والعمل النافع هو الذي يمكث في الأرض، كما يشير الى ذلك القرآن الكريم.والواقع أن دبي شهدت في فترات مختلفة من مراحل تاريخها قيادات رشيدة، ولكل من هؤلاء القياديين مرحلة تاريخية يستطيع المؤرخ المتابع أن يرصد لها جانباً مضيئاً من تاريخ هذه الإمارة منذ أن تم توثيق هذا التاريخ في الربع الأول من القرن التاسع عشر، أي منذ معاهدة السلام الدائم مع الإنجليز في عام 1820 م، وفي هذا الاستعراض التاريخي نحن لسنا بصدد الحديث عن معالم الوقائع لكل مرحلة، ولكننا أمام مشهد جديد من التاريخ ومشهد جديد من الأحداث، وهو التاريخ والأحداث المتصلة بتولي قيادي من طراز مختلف، يبني كما كان السلف يبني.نبني كما كانت أوائلنا، تبنيونفعل، مثل ما فعلواولكن البناء في تفصيل وتصميم جديدين، كما يتطلبه الوقت الحاضر والعصر الحاضر... وهذا القيادي والمصمم الجديد، هو الشيخ محمد بن راشد الذي يعد بحق بانياً ومعلماً أحدث تغييراً شاملاً في مفاهيم تصاميم العمران وطرازيته وشكله.ومن يتابع أحداث دبي والإمارات بصفة عامة ويرجع ببصره الى الوراء خلال أربعين عاماً مضت أو قريباً من ذلك، يجد أن القيادة وامتلاك زمامها مجسدة في هذه الشخصية، شخصية الشيخ محمد بن راشد، وأتت اليه القيادة منقادة، تصلح له ويصلح لها.فلم يكن الشيخ محمد بن راشد الذي تولى الحكم في دبي ورئاسة الوزراء الاتحادية في مستهل يناير ،2006 بعيداً عن ممارسة القيادة في السنين التي سبقت عام ،2006 فقد مر هذا القيادي بمحطات في سيره العملي والتطلعي نحو القيادة منذ فترة مبكرة في حياته، وأهم هذه الفترة المبكرة، هو تطلعه والشعور بالكفاءة التي يتمتع بها لهذه القيادة.. ومما يؤيد هذا التطلع والشعور بالكفاءة القيادية، قول الشيخ محمد بن راشد نفسه في إحدى قصائده التي قد ترجع الى ثلاثين سنة مضت، بلغة فيها الإصرار والعزيمة والنظرة البعيدة وقراءة المستقبل:نفسي تحب صعودها عن حدرهاوأصارع أفكار بعيد مداهافقد قال الشيخ محمد هذا الكلام وهو لم يتعد العشرين إلا بقليل.. وطالما كان يحب الصعود الى العلياء ويصارع أفكاراً بعيدة المدى في هذه الفترة العمرية المبكرة، فلعمري إنها القيادة والتطلع بعزم وإرادة، وشعور باللياقة لها.ولقد استقى الشيخ محمد من ينابيع المحطات التي مر بها فنوناً من التعليم والتجارب.. في طفولته ونشوئه كان تلميذاً لصيقاً بمعلمه الكبير المغفور له بإذن الله الشيخ راشد بن سعيد، فلم يكن الشيخ راشد أباً ووالداً للشيخ محمد بل كان مدرساً يعلم ابنه سياسة الحكم والقيادة والإدارة التي توارثها الشيخ راشد نفسه فطرياً من أبيه وجده، سعيد بن مكتوم ومكتوم بن حشر.. وكان يقدم ابنه في الأمور المتسمة بالمهمات الصعبة والهامة، وكان إذا عرض أمر له أهميته يطلب ابنه الشيخ محمد ليشارك في الحوار ويدلي برأيه، وكان يحدث هذا بصفة دائمة وفي كل ما يقع من أحداث.وفي البداية تلقى الشيخ محمد بن راشد تعليمه الابتدائي والإعدادي في دبي، ثم التحق بمدرسة (بيل) في كامبردج ببريطانيا وعمره إذ ذاك حوالي 16 عاماً (1966)، حيث احتك بالمئات من الطلبة والمدرسين الأجانب الذين تزخر مدارس كامبردج الشهيرة بهم، وكان للدراسة هناك والاحتكاك أثر ذهني كبير على الشيخ محمد فيما يتعلق بانفتاح ذهنه وبلورة أفكاره، لأن المدرسة كانت تحتوي على تلاميذ من مختلف الأعمار وفيهم إداريون وقياديون جاؤوا لتلقي الإنكليزية في هذه المدينة التي عرفت بعراقتها، وفي رأيي أن وجوده في هذه المدرسة وفي هذا الوقت المبكر من حياته جعله ينفتح ذهنياً على العالم، خاصة وأن الشيخ محمد معروف عنه أنه يحب الاختلاط بالناس يأنس إليهم ويأنسون إليه ويتعامل مع الآخرين بالبساطة المعهودة عنه.وبعد انتهاء تلك الدراسة التحق الشيخ محمد بن راشد بكلية للتدريب العسكري والقيادي في بريطانيا هي (كلية مونز)، حيث مكث هناك قرابة ثمانية أشهر يتلقى تدريباته، وكان الشيخ راشد رحمه الله يقص على جلسائه في مجلسه طبيعة تلك التدريبات البدنية والذهنية الشاقة التي كان الشيخ محمد يتلقاها في هذه الكلية.. ويظهر أن هذه التدريبات قد جعلت من الشيخ محمد عسكرياً قيادياً ملماً بشؤون العسكرية القيادية إلماماً جعلته شخصية ذات مؤهلات قيادية غير عادية أثبتتها الأيام بعد ذلك.وبعد عامين حافلين بالمهمات الصعبة والمؤثرة في بريطانيا، عاد الشيخ محمد الى البلاد ليتولى قيادة الشرطة سنة ،1968 وشهدت الشرطة عهداً جديداً من القيادة المنظمة والواعية منها التخلص من النفوذ الأجنبي المهيمن في الشرطة ومنها إعداد كادر من شباب الوطن لتولي المهام في قيادة هذا المرفق الهام.وبحلول العام 1968 حدثت فترة حرجة في تاريخ الإمارات، وهذا الحرج نجم عن إعلان الانكليز الانسحاب من المنطقة وترك الأمور لأصحابها ليتولوا أمورهم وشؤونهم الداخلية والخارجية، وحددوا موعداً لا يتجاوز ثلاثة أعوام ليكون الإماراتيون مستعدين لترتيب أمورهم، وفي هذه الفترة كان الشيخ محمد عضداً قوياً لوالده المرحوم الشيخ راشد، ولعب محمد الدور المؤثر والفاعل في تكوين الدولة الحديثة التي ينعم الناس بوجودها الآن، وكان قريباً من والده ومن الباني للدولة المرحوم الشيخ زايد بن سلطان الذي كان يعتبر الشيخ محمد كأحد أبنائه المحببين الى نفسه.. وبتكوين الدولة عام ،1971 تولى الشيخ محمد وزارة الدفاع نظراً لأنه كان يحمل مؤهلات قيادية قلما كان لها مثيل في ذلك الوقت، فقد كان كما قلنا قيادياً عسكرياً وإدارياً غير عادي أثبت ذلك من خلال تنظيمه للشرطة وقيادته لها.. ولم يمض على الشيخ محمد سوى شهرين في منصبه الجديد حتى حدث حادث مروع هز كيان الدولة الوليدة وجعلها في مهب الريح بما حدث في الشارقة وهو الاعتداء على رجل الصلاح والتقوى الشهيد خالد بن محمد حاكم الشارقة السابق رحمه الله.. ولكن القيادة الحكيمة للشيخ زايد رحمه الله تداركت الأمور وألقى زمام تهدئة الأمر والقضاء على الفتنة الى القيادي الرشيد الذي اشرأبت إليه اعناق الناس منذ ذلك الوقت وهو الشيخ محمد بن راشد.. وكان فعلاً كفؤاً لهذه المهمة الصعبة وأثبت مرة أخرى وبشكل ملفت للنظر انه من اكثر الناس تأهيلاً للقيادة الرشيدة.وللحديث بقية...
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"