عدَّاد للنكبات العربية

03:46 صباحا
قراءة 3 دقائق

إذا كان الوضع العربي المستقيل من التاريخ قبل ثلاثة عقود بالتمام والكمال، سيظل على حاله حتى إشعار آخر، سيصبح من الضروري استحداث دائرة جديدة في جامعة الدول العربية، وربما أيضاً في مراكز الأبحاث العربية الجادة، تقوم بدور العداد للنكبات العربية المتلاحقة، يؤرخ لانطلاقة كل نكبة ومراحل تطورها.

ففي هذا العام ،2008 يكون قد مر ستون عاماً (ستة عقود كاملة) على نكبة القضاء على فلسطين التاريخية، واغتصاب أرضها وحقوق شعبها، على مرحلتين متكاملتين، لا يفصل بينهما سوى عشرين عاماً (1948 و1967).

وبدل أن تكون المحصلة التاريخية لهذه النكبة الأولى، لعب دور التحدي الذي يحفز الإرادة العربية على جميع المستويات وفي جميع الميادين، فقد جاء علينا العام الحالي، ونحن نؤرخ لنكبة ثانية، جاءت استكمالاً منطقياً لاستمرار النكبة الأولى، هي نكبة مرور خمس سنوات على احتلال العراق وتدمير بنيته كدولة عصرية، وشعب واحد متعدد الأعراق والأديان.

غير أن المحللين والمؤرخين قلّما تسترعي انتباههم نكبة ثالثة، تحل علينا في هذا العام، ذكراها الثلاثون، هي نكبة بداية استقالة الأنظمة العربية من مهمة صناعة التاريخ، نظاماً إثر آخر، ابتداء من توقيع كبرى الدول العربية، مصر، اتفاقية كامب دافيد.

المصيبة العظمى في هذه النكبة الثالثة، التي ربما تتحول (إذا لم يوضع لها حد نهائي) إلى نكبة أم، ولادة لنكبات تفصيلية هنا وهناك، في شتى أرجاء الوطن العربي، المصيبة العظمى أن النظام المصري الرسمي قدم هذه الاتفاقية للعالم العربي، على أنها انهاء تاريخي ونهائي للصراع العربي - الإسرائيلي، بينما أثبت تطور الأحداث، أن الصراع ما زال في أشد حالات فورانه لمصلحة اسرائيل، وأن كل ما فعله النظام الرسمي في مصر، هو استقالته من الصراع (أي من التاريخ، وصناعة التاريخ).

ومع أن توقيع مصر لاتفاقية كامب دافيد منذ ثلاثين عاماً، بدا لنا في الوهلة الأولى كأنه عمل انفرادي، لا يعبر عن الوضع العربي الرسمي العام، بدليل الحملة الشعواء على مصر، التي شاركت فيها كل الأنظمة العربية من دون استثناء (المحافظ منها وغير المحافظ)، وهي الحملة التي توجت بنقل جامعة الدول العربية من مصر إلى تونس، فإن تطور الأحداث أثبت أن هذه الحملة لم تكن أكثر من قنبلة دخانية ألقيت لتعمي أبصار الشعوب العربية، عن المسيرة التي انطلقت باتجاه استقالات جماعية وفردية للأنظمة العربية الرسمية من الصراع، حتى وصلنا إلى مشاهد التطبيع التي تملأ الواقع العربي، إضافة إلى الشاشات الفضائية.

مرة أخرى، تريدنا بعض الأنظمة العربية الرسمية أن نتوهم، أنها إنما تفعل ذلك لأن المشكلات الناجمة عن نكبة فلسطين (ستون عاماً)، ونكبة العراق (خمسة أعوام)، إنما أصبحت في حكم المنتهية والمحلولة، وأنه لم يبق أمامنا سوى الالتفات إلى مشاريع التنمية المتبادلة، المؤسسة على التفاهم العميق، مع الاحتلال الإسرائيلي لكل فلسطين التاريخية، والاحتلال الأمريكي لكل العراق التاريخي.

إن الجسم العربي العام، كما تعبر عنه الأنظمة الرسمية العربية، يبدو منزوع الإرادة السياسية، ويذّكر تماماً بحالة المريض فاقد المناعة ضد الأمراض، وهو وضع لا يحتاج إلى حالة من التشاؤم حتى يجعل المراقب يتوقع منه أن يؤدي إلى مزيد من النكبات، إذا بقي هو الوضع المسيطر، وهو الوضع الذي يسيّر شؤون السياسة العليا في منظومة الدول العربية.

إنه وضع عربي عام يعبر عن نفسه بكثير من التجليات الكبرى والصغرى، في حياتنا العربية العامة، كما في ممارسات الأنظمة العربية، وكأن آخر هذه التجليات ذلك المشهد العربي العام كما بدا في مؤتمر القمة العربي الذي انعقد في دمشق قبل أسابيع.

لقد حاول بعض المراقبين قياس فداحة تدهور الوضع العربي، بعدد الدول العربية التي تخلف زعماؤها عن المؤتمر.

لكن هناك في حقيقة الأمر، معياراً آخر لقياس فداحة تدهور الوضع العربي العام، هو قياس فعالية أو عدم فعالية مؤتمرات القمة العربية، في العقود الأخيرة بالذات، حتى عندما تكون مكتملة النصاب.

هذه نظرة واقعية، إلى أعماق الواقع العربي، يبدو معها عنوان هذا المقال بعيداً عن المبالغة التي يوحي بها لأول وهلة، أنه وضع يؤدي في حالته الراهنة إلى ولادة مزيد من النكبات، التي لا يمكن أن تتوقف، إلا إذا حدث انعطاف تاريخي يتحول فيه الانكفاء السلبي الذي يلف الشعوب العربية كافة، في مواجهة الأداء السلبي لأنظمتها الحاكمة، إلى حالة نهضوية حيوية تنهي استقالة العرب الحالية من صناعة التاريخ، وتضع إرادتهم السياسية الوطنية والقومية في مقدمة العناصر التي تقرر حاضرهم ومستقبلهم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"