عشرون عاماً على اليورو

03:02 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

وضعت معاهدة ماستريخت (7 فبراير/شباط 1992) التي أنشأت الاتحاد الأوروبي، خمسة معايير مالية صارمة على الدول الراغبة في الانضمام للاتحاد النقدي تحقيقها (متعلقة بنسب التضخم والعجز العام والاستقرار النقدي ونسب الفوائد والدين العام).
ولم يكن سعي الحكومات لتحقيق هذه الشروط من دون عثرات كادت أن تطيح البناء الأوروبي برمته؛ إذ إن دولاً هددت بالخروج من الاتحاد وقد خرجت بريطانيا بالفعل من النظام النقدي الأوروبي.
وفي العام 1996 سادت القناعة في أوساط اقتصاديين أوروبيين بأن عدداً قليلاً جداً من الدول الأوروبية، سوف ينجح في تحقيق المعايير الضرورية للدخول في الاتحاد النقدي، في موعده المقرر وهو الأول من يناير/كانون الثاني 1999، وبالتالي فمن الضروري تأجيل الموعد لسنوات عدة، على الرغم من الجهود الجبارة التي راحت تبذلها الحكومات الأوروبية التي وضعت سياسات ضريبية صارمة تسببت لها بمشاكل سياسية وانتخابية، سعياً وراء تنفيذ شروط الدخول في الاتحاد النقدي.
لكن المفاجأة كانت كبيرة عندما نشرت المفوضية الأوروبية، بالتزامن مع المجمع النقدي الأوروبي، تقريراً في 25 مارس/آذار 1998 يقول بأن إحدى عشرة دولة أوروبية، تمكنت من تنفيذ الشروط المذكورة بعد «جهود خارقة» بذلتها منذ سنوات طوال لتحضير اقتصاداتها لليورو. وقد ارتفع هذا العدد إلى 14 دولة بعد أشهر قليلة على ولادة «منطقة اليورو» في بداية العام 1999 ثم إلى 19 دولة لاحقاً تضم حوالي 345 مليون مستهلك. وتم الاتفاق على أن يكون مقر المصرف المركزي الأوروبي في مدينة فرانكفورت الألمانية، وأن يبدأ بممارسة السيادة النقدية الفعلية مكان البنوك المركزية الوطنية اعتباراً من التاريخ المذكور.
وبقي اليورو عملة افتراضية يقتصر استخدامها على المحاسبة والتعاملات المالية طوال عامين، وذلك بهدف مساعدة الشعوب على التكيف مع هذه العملة الجديدة، التي أضحت عملة ورقية ومعدنية متداولة، إلى جانب العملات الوطنية في بداية العام 2001 قبل أن تحل محلها بشكل نهائي اعتباراً من مطلع العام 2002.
وقتها كشفت استطلاعات الرأي، عن تأييد الشعوب الأوروبية للعملة الجديدة ما خلا الشعب الألماني (فقط 40%) الذي رفع يافطات سوداء في الشوارع، تعبيراً عن الحزن على رحيل المارك الذي لطالما كان مصدر اعتزاز الألمان بعملتهم واقتصادهم الوطنيين.
لقد توقع خبراء اقتصاديون كثيرون بأن يحل اليورو محل الدولار كعملة مرجعية عالمية كما سبق وفعل الدولار الأمريكي مع الجنيه الإسترليني في يوم من الأيام. لكن ما حصل من أزمات مالية واقتصادية عالمية في ربع القرن المنصرم ضرب الاقتصادات الأوروبية بطرق غير متساوية بمعنى أن منها ما صمد أمام رياح الأزمات ومنها ما كاد ينهار تحت وطأتها.
تداعيات الأزمة المالية الكبرى التي انطلقت من الولايات المتحدة في العام 2008 لتضرب الاقتصاد العالمي، تسببت بأزمة ديون ضخمة في منطقة اليورو، بلغت حداً كاد يودي بالاتحاد النقدي، لاسيما عندما بدأت دول بالتفكير جدياً بالخروج من اليورو، كما حدث مع اليونان على سبيل المثال لا الحصر. هذه الأزمة كشفت عن وجود تفاوت اقتصادي واسع بين دول اليورو التي انقسمت بين شمال صامد إلى حد كبير في وجه الأزمة، وجنوب غارق في الديون. وقد برهن المصرف المركزي الأوروبي الذي يشرف على السياسة النقدية الأوروبية الموحدة عن تميز في قدرته على حماية اليورو، لاسيما عندما قام بشراء عدد كبير جداً من السندات الحكومية من الدول المديونة، بلغت أكثر من 26 تريليون يورو بين العامين 2015 و2018 ونجح في لجم نسبة التضخم إلى حوالي الاثنين في المئة وهو المستوى الذي سبق وحدده كهدف ينبغي تحقيقه.
لم يكن البنك المركزي الأوروبي ليتمكن من التعامل مع الأزمات لولا اتفاق الدول الأوروبية في ما بينها على دعم وإنقاذ الدول الرازحة تحت الأزمة، وهذا الاتفاق نفسه لم يحصل من دون خلافات ومفاوضات شائكة وصعبة. وبالرغم من كل شيء لا يزال شبح الأزمة يخيم على منطقة اليورو؛ حيث تختلف الدول ال19 على الإصلاحات السياسية والاقتصادية الواجب إقرارها لحماية منطقة اليورو ومعها الاتحاد الأوروبي نفسه، الذي بات مناهضوه يتقدمون في الانتخابات في معظم الدول الأوروبية.
ويحمل الرئيس الفرنسي ماكرون، مشروعاً للإصلاح الأوروبي يقوم في خطوطه العريضة على استحداث منصب وزير مالية وموازنة خاصة لمنطقة اليورو وصندوق نقد أوروبي على غرار صندوق النقد الدولي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"