علامات مبهمة على طريق وعرة

03:05 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

قضيت ساعات ثقيلة مع آخر محاولة من جانبي لفهم وثيقة جاريد كوشنر صهر دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. وهي وثيقة أتاحت لي ظروفي أن أعرف مقدماً من ذوي الخبرة، وقد سمحت لهم اتصالاتهم ومراكزهم الاطلاع على أجزاء متفرقة منها في أوقات متفرقة ثم اطلعوا عليها في شكلها النهائي، قبل أن تأتي ناحيتي فأطلع عليها بدوري. أقول: إنني عرفت منهم مقدماً أنه لا يجب أن أتوقع أن أجد فيها أو بالأحرى أنتظر مجموعة إرشادات تختلف في جوهرها عن الإرشادات المزودة بها عدة طرق تقودنا إلى مستقبل كُتب لنا.
تقترح الوثيقة للقارئ الذكي أن يلاحظ أن «إسرائيل» تخطت بنجاح، وإن بمشقة وتضحيات، جميع مراحل النشأة، وأثبتت لشعبها والعالم الخارجي، وبخاصة لأقليتين متعصبتين في جموع الناخبين الأمريكيين؛ إحداهما إنجيلية والثانية يهودية، أنها حققت مظاهر وشروط البلوغ، ولا يفصلها عن الاحتفال به سوى مسائل شكلية، سوف تتم إزالتها خلال السنوات الأربع القادمة.
أكتب هذه السطور، ومن حولي يصدر عن أدوات الإعلام والاتصال سيل من اتهامات لدول تتعامل مع دول أخرى بأساليب غير نظيفة. الاتهام ليس جديداً، والممارسات غير النظيفة في السياسة الدولية كثيرة ومتنوعة، وأظن أنها نشأت مع نشأة أول علاقة بين دولتين. إلا أن دولاً كثيرة أدركت مع مرور الزمن أن في العلاقات الدولية يجب أن يكون الاعتماد على الممارسة النظيفة باعتبار أن عائدها أقل خطراً وكلفة من عائد الممارسات غير النظيفة. أسمع الآن أن الصينيين يتهمون الأمريكيين بشن حملة تشوية صورة الصين؛ بل بشن حملة قذرة، تتهم الصين بالتقاعس عن وقف انتشار فيروس «كورونا». أكثر الدول العربية إلى جانب الفلسطينيين يتهمون أمريكا باستخدام أساليب غير نظيفة ضدهم؛ لأن الحرب التجارية التي شنتها أمريكا على الصين، وتشنها على دول أخرى لأسباب متباينة لم تترك مجالاً للشك في أن الولايات المتحدة تقدم على ممارسات غير نظيفة مع الدول التي تختلف معها، والدول التي تهيمن عليها. يحق لهؤلاء بأي معيار إصدار هذا الاتهام على ضوء ما قامت به واشنطن مؤخراً في حربها ضد الفلسطينيين. نقلت سفارتها إلى القدس، وأعلنتها عاصمة موحدة و«أبدية» ل«إسرائيل». اعتبرت الجولان أرضاً غير محتلة، والمستوطنات حق ل«إسرائيل»، وأوقفت المعونة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين، ثم وبكل بساطة تبنت خطة كوشنر نهائية، وغير قابلة للنقاش، وفي الوقت نفسه، قابلة للدراسة والتأمل خلال مدة أربع سنوات.
جلس إلى جانبي شاب من زملائي الصغار في السن. كنا نقرأ الخطة والشروط، وننظر بكثير من السخرية المصحوبة بالألم إلى خريطة مرفقة بالخطة، وفجأة انتصب الشاب واقفاً،
وقال: «ابني لن يرضى بهذه خريطة، ولا بخطة تفوح من كل جوانبها رائحة ميول ونوايا فوقية يهودية، تفرضها على دونية عربية.. الأجيال القادمة سوف تسعى لتمزيقها كما حاولتم أنتم أنفسكم وحاول آباؤكم مع خرائط وخطط خلفها الاستعمار الأوروبي. ثم من قال إن بقية دول الشرق الأوسط سوف تنفذ شروط كوشنر إذا نحن أطعنا ووافقنا ونفذناها».
نعيش مرحلة انقلبت فيها دول من كافة المقاييس والأحجام على القانون الدولي، أمريكا وهي على كل حال صانعة نظام دولي جديد، مارست انقلابات على القانون الدولي، مارستها بكثافة عندما لاح لها أنها تقود العالم منفردة كقطب أوحد عند نهاية القرن الماضي؛ لكنها تفوقت على نفسها في المرحلة الترامبية، وهي المرحلة التي يمكن أن تخلف تشوهات بارزة في شكل النظام الدولي القادم ومضمونه. لم يختلف اثنان من رجال القانون الدولي على أن ما جاء بخطة كوشنر هو اعتداء صارخ على القانون الدولي، وعلى المؤسسات الدولية، وعلى روحه وفلسفته. ومع ذلك بدا لي أننا نعيش عصراً يكفر بالقانون والأخلاق عموماً.
هذه النظرة إلى القانون كانت بلا شك في ذهن صانع خطة كوشنر وزميله فريدمان، وممولها المليونير الصهيوني. وجدوا أن من حقهم وحدهم أن يعيدوا رسم خرائط في الشرق الأوسط طالما أن الفائدة تعود على «إسرائيل»، وطالما كانت الكُلفة السياسية والاقتصادية سوف تتحملها شعوب المنطقة. لاحظنا أن هذه النظرة إلى القانون صارت شائعة في السياسات شرق الأوسطية، والأمثلة كثيرة ليس أقلها شأناً ممارسات الرئيس رجب طيب أردوغان في سوريا وكردستان وشرق البحر المتوسط وعبر البحر حتى ليبيا.
الخطة بخرائطها بين يداي أرميها جانباً، وأتجاهلها مؤجلاً الاهتمام بوقف تنفيذ سيناريو غير مرغوب لمستقبل أمتي وأبنائي وأحفادي من بعدي، أم أعود إلى قراءتها مرة ثالثة؛ لعلي أجد في سطورها أو بينها ما يبرر إلحاح الملحين والمؤملين خيراً، أن نضع «السلام» كلمة في عنوانها؟
لم أجد ولن أجد.. أم أعود فأدعو القادة العرب إلى رفضها كما رفضوا غيرها من قبلها، على أن تخرج من قمتهم القادمة خطة مفصلة مقابلة تعلن النية في وقف التدهور في هذا النظام العربي الهالك، حتماً إن لم تهبّ هذه القمة لإنعاشه أو استبداله.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"