عندما تموت السياسة تكثر المهازل

04:58 صباحا
قراءة 3 دقائق
هل من الممكن وجود حياة سياسية من دون تواجد أحزاب عقائدية تنبع منها مطالب محددة ومشاريع تفصيلية تتغير هي بدورها مع متغيرات الظروف وتطوُر الحاجات؟
وهل تستطيع تلك الأحزاب القيام بتلك المهمات من دون وجود حرية تعبير ونشر وتجمهر وتنظيم، لا تخضع إلا لسلطات قانون ديمقراطي شرعي صادر عن سلطة تشريعية منتخبة شرعية، ومن دون استقلالية كاملة مالياً وإدارياً عن أية سلطة إلا سلطة القضاء النزيه المستقل .
ثم، هل لوجود تلك الأحزاب أي معنى، وأية قيمة إذا لم تتداول السلطة مع الآخرين، حسب نتائج انتخابات شفافة ونزيهة، وذلك من أجل تنفيذ الشعارات والمشاريع التي طرحتها على الناخبين؟
إذا حاولنا الإجابة عن تلك الأسئلة بصدق وموضوعية فسنصل إلى استنتاج مفجع، وهو أنه لا توجد حياة سياسية صحية في أي من المجتمعات العربية، بل إن الحياة السياسية العربية في طريقها إلى مرض عضال قد يوصلها إلى الموت البطيء . هذا الاستنتاج نصل إليه بالرغم من الأحداث الكبرى التي اجتاحت الأرض العربية من خلال ثورات وحراكات الربيع العربي إبان السنوات الثلاث الماضية .
أن تريد غالبية أنظمة الحكم العربية وصول الحياة السياسية في مجتمعاتها إلى هذه الحالة البائسة فهذا أمر مفهوم، فالحياة السياسية الصحية ستكشف الفساد وتحدّ من الامتيازات غير القانونية . لكن أن تقف قوى المجتمعات المدنية متفرجة بلا مبالاة أو بعجز معيب فهذا أمر لم يعد مقبولاً ولا حتى مفهوماً .
ما يظهر بشكل بالغ الخطورة عجز الحياة السياسية العربية هو ما جرى ويجري في العديد من بقاع الوطن العربي من فضائح مضحكة مبكية تشير إلى أنه سياسياً لا تزال المجتمعات العربية في مرحلة المراهقة غير الناضجة وغير المتزنة .
في أحد البلدان لم يتوصل مجلس النواب، بالرغم من انعقاده أسبوعياً عبر شهرين، لانتخاب رئيس للدولة . السبب هو انتظار حدوث توافق بين دولتين إقليميتين مع بعضهما بعضاً، ومن ثم توافق هاتين الدولتين مع دولتين غربيتين قبل أن يكون ممكناً لمجلس نيابي، يدعي تمثيل الإرادة الشعبية، اختيار رئيس لتلك الدولة . هذا ارتهان للحياة السياسية في ذلك البلد لإرادة خارجية، أي في الواقع إعلان بموت الحياة السياسية التي لا دخل لها لا بالشعب ولا بالوطن .
في بلد آخر تلخصت الانتخابات الرئاسية التي جرت في ربوعه في سيل هائل من المقارنات الشخصية بين المرشحين المتسابقين الاثنين، صفاتهما الشخصية، علاقاتهما بمختلف القوى الداخلية والخارجية، نقف من هنا وهناك عند أفكارهما السياسية . لكن ماذا عن المؤسسات المدنية السياسية، حاملة العقيدة السياسية الأساسية والمشاريع التفصيلية المنبثقة من تلك العقيدة، المزكاة بتاريخ سياسي يثبت كفاءتهما وقدراتهما وبتاريخ سياسي نزيه نظيف لقيادتهما، ماذا عن وجود تلك المؤسسات المدنية السياسية التي سيعمل معها الرئيس القادم وستكون قادرة على تنفيذ وإدارة حاجات ومطالب المواطنين حتى يطمئن المواطنون إلى أن المرشح الناجح لن يعمل مع قوى خفية فاسدة أو قوى سلطوية مستبدة؟
في بلد ثالث قامت ثورة اختلط فيها الحابل بالنابل بسبب تدخلات خارجية إجرامية فكان أن مات عشرات الألوف وحل الدمار في كل مكان . في هذا البلد لم تستطع الحياة السياسية أن تبعد ثورة شعبها عن عبث وحقارة الخارج، ولا أن تنحي المسؤولين الذين أوصلوا المواطنين والبلد إلى تلك المأساة . والآن تفشل الحياة السياسية حتى في إقناع المسؤول الأول عما حدث لعدم ترشيح نفسه لخوض انتخابات قادمة، إنها حياة سياسية عاجزة فاشلة مريضة .
هل نذكر البلد الرابع الذي ينجح في انتخاباته رجل طائفي فاسد ليقود البلد؟ هل نذكر البلد الخامس الذي يتخلص من دكتاتور فاسد ليصبح محكوماً من قبل عشرات من رؤساء الميليشيات؟ القائمة طويلة، والبلاء منتشر في كل مكان، والحياة السياسية مريضة تحتضر في كل أرض من هذا الوطن الكبير المنهك .
وليس بالمهم ولا الضروري ذكر أسماء البلدان والأنظمة والأشخاص . فالقحط السياسي يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى طاعون سياسي .
هذا كلام موجه إلى شباب ثورات وحراكات الربيع العربي بأن يعي، قبل فوات الأوان، بأن الحياة السياسية في أرض العرب أكثر وأعمق وأكبر من مظاهرات وتواصل اجتماعي عبر الإنترنت، فلينتقلوا من تلك المرحلة إلى الأعلى والأصعب .

د . علي محمد فخرو

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"