عندما تهيمن الـ «أنا» على العقل العربي

03:51 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

في عشرينات القرن العشرين قسم مؤسس علم النفس الحديث، فرويد، العقل البشري إلى ثلاثة مستويات: العقل، أو أنا الأدنى (iD)، والعقل الأعلى (Superego)، وبينهما العقل، أو أنا الوسط المنسق فيما بين الاثنين( EGo).
وكمحاولة للتعريف المنطقي والسلوكي لتلك المستويات في الذات البشرية، عرفت الأنا الدنيا بأنها مصدر للغرائز البدائية المدمنة على، والمنغمسة في الملذات والتجريب الدائم، والخازنة لكل تلك المشاعر الغريزية في مستوى اللاوعي. أما الأنا العليا فهي ذلك القسم من الذات المتصفة بالحكمة، والعقلانية، وبالطهارة الأخلاقية، والمتمسكة بالقيم العليا، والمؤمنة بأهمية ثقافة وعادات مجتمعها، والعاملة على مستوى الوعي الكامل، وأما الأنا الوسطية فهي التي تحاول، ناجحة أحياناً، وفاشلة أحياناً أخر، إيجاد توازن وعلاقات سلام بين الأنا العليا والأنا الدنيا.
ومع الوقت تبين أن ذلك التقسيم النفسي لا ينطبق على الفرد فقط، كما كانت مدرسة فرويد تظن في البداية، وإنما ينطبق أيضاً على المجتمعات، ومختلف التجمعات الإنسانية.
مناسبة الإتيان بذكر تلك النظرية النفسية والتي تطورت تفاصيلها مع مرور الزمن، وقيام مدارس نفسية جديدة، هي محاولة فهم الوضع النفسي والسلوكي الحاضر للمجتمعات العربية.
الدلائل تشير إلى هيمنة تامة للأنا المجتمعية العربية الدنيا، وإلى تراجع وضمور للأنا المجتمعية العربية العليا، الأمر الذي أدى إلى جمود الذات العربية وعجزها أمام ما تواجهه الآن من مصائب، ومؤامرات، وأخطار خارجية، وداخلية. ولعل من أهم الحقول العربية التي تعيش تلك المحنة هو الحقل السياسي العربي الجمعي المشترك. إذ يلحظ الإنسان غياب الأنا العليا، الحكيمة، الأخلاقية، القيمية، الملتزمة بحماية مجتمعاتها، في مواجهة كل القضايا القومية المشتركة. سنتجنب الحديث عن القضايا الوطنية المحلية التي هي موضوع بالغ التعقيد، ومبرز لألف ألف ضعف وجنون.
لنتذكر بعض الأمثلة التي تدل على تعامل بدائي مدمر للذات والمصلحة العربية العليا.
أول مثال ما حدث في معارك انتخاب رئيس لمنظمة «اليونيسكو». لقد كان هناك شبه إجماع بين الدول على وصول دور الكتلة العربية لاستلام رئاسة المنظمة، بعد أن استلمت الرئاسة مختلف الكتل الأخرى عبر العقود الماضية. وفي الواقع، فإن ذلك الشعور بحق العرب في استلام الرئاسة قد جرى الحديث عنه منذ ربع قرن. لكن في كل دورة انتخابات جديدة كان التمزق العربي، أو الخلافات العربية، أو التنافس الطفولي البليد، يؤدي إلى فشل الكتلة العربية في إنجاح مرشحيها: نعم، مرشحيها، وليس مرشحها. وبالطبع كان آخرها انتخابات الدورة الأخيرة منذ نحو أسبوعين. ويعلم الجميع أنه لو وجد منذ البداية مرشح عربي واحد، لفاز العرب في الحصول على حقهم التاريخي.
يسأل الإنسان نفسه ألف مرة:
أما كان المنطق والحكمة والمصلحة القومية العليا، أي الأنا العليا العربية، تحتم بحث الأمر في الجامعة العربية، أو المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة، والاتفاق على مرشح واحد؟ لكن كيف تعمل الأنا العليا إذا كانت الأنا الدنيا، الأنانية المنغلقة النرجسية، والعبثية، والغريزية، واللا عقلانية، واللاأخلاقية، هي التي تحكم المشهد السياسي العربي العام؟
ثاني مثال هو موضوع انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية للمرة الثانية من «اليونيسكو»، وبنفس السخف والاحتقار للمنظمات الدولية التي تحترم نفسها. إن انسحابها في هذه المرة هو عدوان سافر على موضوع يخص العرب في الدرجة الأولى. فتأكيد «اليونيسكو» على رفض ادعاءات صهيونية بحقوق تاريخية ودينية أسطورية كاذبة في نسب بعض الآثار التاريخية الفلسطينية للتاريخ اليهودي المزعوم، كان صفعة، وتأديباً للقوى الصهيونية التي تصر على الكذب الدائم المتنامي في حقول التاريخ والدين، وامتلاك الأرض الفلسطينية. وهو بالتالي موقف شريف متوازن موضوعي مع حقوق الشعب الفلسطيني، وعروبة فلسطين التاريخية.
من هنا، ألم يكن من واجب العرب، عن طريق كل التجمعات السياسية والثقافية العربية والإسلامية، التنديد بالموقف الأمريكي اللا أخلاقي المنحاز للكذب والتلفيق التاريخي؟ مرة أخرى ضحت الأنا العربية الدنيا بالمصلحة العربية العليا في غياب الأنا العربية العليا المفجع.
يستطيع أن يذكر الإنسان عشرات الأمثلة الأخرى في ساحات المسيرات السياسية العربية المظلمة في شتى الأقطار العربية، من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق: أمثلة أدت إلى دمار العمران والبشر والحضارة، بسبب غياب الأنا العربية العليا المشتركة للأمة العربية جمعاء. بل واستطاعت الغرائز الطائفية المجنونة والصراعات المتنافسة العبثية المكبوتة في اللاوعي الجمعي العربي أن تجعل من العدو الصهيوني صديقا حميماً، ومن الروابط القومية والإسلامية إرباً ملوثة، ومن الخلافات الفرعية أولويات كبرى.
وفي خضم ذلك الجنون السياسي فشلت الأنا العربية الوسطى في إيجاد توازن وتفاهم بين اللاوعي العربي المريض والوعي العربي الغائب.
نحن أمام محنة نفسية عربية لم ير مثيلها التاريخ العربي كله.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"