عندما يحتل الخبراء مكان السياسيين

04:26 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو
عندما تحدثنا في مقالة الأسبوع الماضي عن محاولات تقزيم، أو حتى إماتة السياسة في مجتمعات العرب، فكراً وتنظيماً ونشاطاً، فإننا كنا بالطبع نشير إلى سياسة ذات مواصفات نعتبرها أساسية. لقد كنا نتكلم عن السياسة القائمة على مبادئ، وممارسات الأخذ والعطاء، على التنازلات المتبادلة، على قبول الآخر والتعايش معه بتسامح، على التشارك المجتمعي العادل في الثروات والقوة المادية والمعنوية، أي على الأسس والممارسات الديمقراطية في تنظيم حقل السياسة التي تتلخّص في كبرى أسسها: العقلانية، والحقيقة، والعدالة.
ذلك أنه عندما لا توجد حياة سياسية كتلك فإن فراغاً هائلاً سيوجد في المجتمع. وكما أن الطبيعة لا تقبل الفراغ فإن الحياة المجتمعية هي الأخرى لا تقبل الفراغ، أو الخواء. إذ عند حصول مثل ذلك الفراغ السياسي تهبّ أعاصير، وتشتعل حرائق من مثل الطائفية العنيفة المجنونة المتزمتة في الدين، أو المذهب، أو من مثل الولاءات القبلية والعشائرية التي تتقدم الولاء للوطن والمواطنة، أو من مثل المطالبات الانفصالية العرقية، التي جميعها تؤدي إلى تمزيق الأوطان، أو إدخالها في حروب أهلية، أو جعلها نهباً لتدخلات الخارج والأعداء.
المفجع أن تلك الصورة المرعبة المأساوية هي التي نراها تحدث عبر طول وعرض الوطن العربي، بظلال، وألوان متفاوتة.
هناك جانب آخر نحتاج لإبرازه، إذ إنه لا يتمظهر كعواصف ونيران، وإنما يكون إشكالية في نوع نظام الحكم، وفي مدى كفاءته. إذ في هذه الأجواء التي تتميّز عادة بانطواء الأفكار والمبادئ والقيم الأخلاقية على نفسها، وبانزواء طبقة السياسيين الجادين غير المهرجين، تنتقل المجتمعات إلى أن تمسك بخناقها ظاهرتان جديدتان تحملان الكثير من الأخطاء.
الظاهرة الأولى، هي قيام وتحكّم ثقافة اقتصاد السوق المنفلت الذي لا تحكمه إلا قيمة واحدة، هي قيمة الربح، وذلك من خلال المنافسات المجنونة المتقاتلة بلا ضوابط، ومن خلال الفساد وشراء الذّمم.
ومن أجل تبرير النتائج الكارثية للظاهرة الأولى، وعلى الأخص تبرير ازدياد غنى الأغنياء، وفقر الفقراء، يستعان بالظاهرة الثانية: ظاهرة الصعود المذهل لمن يسمون أنفسهم بالاختصاصيين الخبراء القادرين على ممارسة سحر الحلول، ووضع الخطط التنموية الخمسية، أو العشرية، أو وصولاً حتى إلى الثلاثينية.
لكن هؤلاء الخبراء سيعتمدون في تقديم استشاراتهم على ثالوثهم المقدس، المتمثل في الإحصاءات، والمعادلات الرياضية، واستطلاعات الرأي المعبرة عن مشاعر مؤقتة، ومتقلبة. ولن يكون هناك مكان للمبادئ، وقيم الرحمة، والتعاضد، والتوازنات المجتمعية الإنسانية، إذ ستحل محلها معادلات مدارس ومؤسسات العولمة المقدسة التي تحتكم فقط إلى الإيمان المطلق بقدسية متطلبات حرية الأسواق، وتعاظم الأرباح التي لا سقف لها.
لكن هؤلاء الخبراء لا يكتفون بممارسة طقوسهم في الحجرات المظلمة، وتقديم استشاراتهم إلى أجهزة حكم كسولة متثائبة، وإنما يحتلون المساحة الأكبر من حقول الإعلام السمعي والبصري، والتواصل الجماهيري.
لنلاحظ العدد الهائل من الخبراء الذين تستضيفهم وسائل الإعلام، بعد كل نشرة أخبار، ليقدموا تنبؤاتهم، وتخميناتهم، وادعاءاتهم، وتوجيهاتهم في حقول السياسة، والمال، والاقتصاد، والأمن، والإرهاب، والبيئة. حتى ما يجول في خواطر الناس ونفوسهم أصبح موضوعاً لهؤلاء الخبراء.
لكن ما لا يمكن إغفاله هو الخليط العجيب في تركيبة ما يقدمه هؤلاء، إذ يختلط العلم بالظن والتخمين، الاعتقاد بالمعرفة، والعواطف بالعقلانية. ويشعر الإنسان بأن التواضع قد اختفى في عالمنا.
عندما تغيب الأفكار السياسية الكبرى، وينزوي السياسيون الملتزمون بتلك الأفكار، ويقبع المفكرون الإنسانيون في زوايا المؤتمرات ليتحدّثوا مع أنفسهم، وتصبح قيمة العدالة كلمة إيديولوجية يُستهزأ بها، فإن فراغاً سياسياً هائلاً يحدث ليملأه الخبراء الذين كما قلنا ونكرّر، لا يحتكمون إلا إلى ثالوث المعادلات الرياضية والإحصاءات واستطلاعات الرأي، الثالوث الذي لا يهمه أن يعيش الإنسان في عالم لا رحمة فيه، ولا عدل، ولا إنصاف، ولا تضامناً بشرياً.
في هذه الأجواء لا يقدّم الخبراء التحاليل والبدائل فقط، وإنّما يُسمح لهم أيضاً باتخاذ القرار. لم لا، إذا كانت السياسة، في المجتمع وفي السلطة، قد تخلت عن ممارسة أهم أسباب وجودها وهو اتخاذ القرار وتحمّل مسؤولياته؟ في المحصلة، الذي يدفع الثمن هو الإنسان المواطن. فإذا رفض وثار من أجل حريته، وكرامته، وعدالة عيشه، قمع أو سجن، أو قتل، أو دُمر مسكنه، أو شُردت عائلته في المنافي.
وإذا استكان وأصبح لامبالياً انبرى المثقفون والمفكرون بلومه وتقريعه، واستنهاضه، وتحميله مسؤولية الكوارث.
إنها حلقة مفرغة تتأرجح بين الثورات والحراكات المهزومة، وبين الهدوء والتثاؤب الممل. إنه ثمن تغييب وغياب الممارسة السياسية الحقيقية المعقولة الصادقة السلمية في وطن العرب.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"