غزة التي لا يعرفون

23:51 مساء
قراءة دقيقتين
ثمة لحظات نادرة في التاريخ يتكثف فيها كل شيء، وقد تتقطر منها الحقيقة التي قلما تولد إلا في المنفى، وغزة تعيش الآن مثل هذه اللحظة وتختبر ما تبقى من الرحيق لا بالمعنى الشكسبيري المعروف، بل بهذا المعنى الذي تفرزه أيام لا تشبه الأيام لأنها أطول من أعوام، ليس لأن الظلام يطيل أيدي لصوص الاحتلال فقط، بل لأن سؤال المقاومة ينبعث مجدداً، وكأن القيامة أصبحت وشيكة، بسبب فائض الموت، ووفرة الدم الذي ينزفه الناس في البئر التي حوصروا فيها لكي يطفوا.النساء الفلسطينيات يئسن من أية تلبية للاستغاثات التي لم تنقطع في زمن لا معتصم فيه ولا عاصم إلا الله، لهذا جئن من كل فجٍ في غزة لاقتحام معبر يصح عليه ما قال دانتي في الكوميديا الإلهية، إنه اللمبو، الذي يفصل بين جنة الوطن وجحيم المنفى، وبين حرية بعيدة المنال وعبودية في متناول كل النائمين الذين أسلموا أمرهم لمن لا يؤتمن على أمر.الفلسطينيات العابرات من المحظور والمحرم إلى بوابة لها مصراعان أحدهما تاريخي والآخر من صلب هذه الجغرافيا الرخوة، لم يرددن أناشيد جداتهن النائيات في مقابر التاريخ ولم يهددن الرجال بالفراق، كما أنهن لم يعدنهم بفرش النمارق. بينهن أرامل وثواكل.. وحرات جُعن ولم ولن يأكلن بالأثداء، لأن السنديان لا يعبأ بالأفعى التي تلوذ بجذعه حتى لو باضت.ولم يكن وحدهن في هذا الرهان الباسل وثمة شقيقات وأشقاء لهن سهروا تحت وابل الثلج في مدن لم تتقن الرطانة بالعبرية بعد، والناس الذين نعاهم العدميون وغربان الأطلال تماوتوا قليلاً لكنهم لم يموتوا، لهذا لم تكن غزة غارقة في الظلام كما وصفها من يحملون الكاميرات العمياء، كانت مضاءة بعيون الأطفال، وهتافات عرب لا يزالون على قيد ذاكرتهم، ولم يترجموا إلى لغة أخرى.وإذا كانت غزة قد حكمت بالإعدام، بالجملة وبلا أية حيثيات فلأنها استعصت على التدجين، ولا يمكن لإنسان حتى لو فقد رشده أن يصدق بأن هذا العقاب هو لنفر من الفلسطينيين، سواء كانوا من حماس أو سواها، فالعقاب جماعي، لم يسلم منه شيخ يحتضر أو طفل رضيع.كم كانت غزة في تلك الليالي جديرة بأن نطفئ الكهرباء في بيوتنا وشوارعنا احتجاجاً على الظلام الذي تحالف مع الاحتلال، فالشجب وحده لا يكفي، لأنه فقد مفعوله لفرط التكرار العقيم.وغزة الأنثى طاعنة في الممانعة والحزن تماماً كما أن غزة الرجل لا تخاف من البحر أو الغزاة، لهذا صمدت مراراً وتلقحت بأمصال من دمها ضد كل هذه الأوبئة السياسية، وهذا التدجين الذي جرب عقوداً لكن بلا طائل.لم تكن غزة وحدها، رغم معرفتنا بأن اليد أقصر بأضعاف من طول البصر لدى عرب أسرى في أوطانهم، لكنهم بالرغم من ذلك، صرخوا ومنهم من أوقد أصابعه ليضيء ليلها الطويل.لحظة الاختبار تلك، أصابت من حاصروا غزة وحكموا عليها بالإعدام بالخيبة، فقد تمددت لتشبك ذراعيها بذراعي الناصرة وحيفا وجنين ونابلس، ولم تعد بعيدة عن عواصم عربية لم يشكمها اللجام، فصرخت حتى عبرت مع الريح رغم انسداد الممرات والآفاق، والآذان
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"