غياب التواصل وصعود التعصب

02:11 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

من أهمّ أسباب الفوضى السياسية التي تعم المجتمعات المدنية العربية، والصراعات الإثنية والمذهبية والقبلية التي تستهلك طاقة المجتمعات، بحيث لا يبقى من هذه الطاقة شيء لتوجيهها للبناء التنموي والحضاري. من أهم تلك الأسباب هو عدم وجود ممارسات التواصل بين مكونات تلك المجتمعات.
ونعني بممارسة التواصل وجود رغبة حقيقية للتعرّف على فكر وشكاوى ومعاناة وآمال الآخر، ومحاولة إجراء التحاور الهادئ المنفتح المتسامح معه، ذلك التحاور الصادق الشفاف الذي يحدد بالضبط ما هو مقبول وما هو مرفوض. وبمعنى آخر وجود منطلقات تحكم ذلك التحاور وتضبطه، منطلقات تقوم على العقلانية من جهة وعلى تحكيم الضمير الأخلاقي العادل من جهة ثانية.

هذا النوع من التواصل لم يحدث بين أتباع الديانات المختلفة، ولا بين أصحاب المذاهب الإسلامية المتعددة، ولا بين المنتمين لأحزاب وإيديولوجيات متنافسة. فالذي حدث هو تخندقات في جهات متقابلة، قائمة على الجهل شبه التام بما لدى الآخر، وعلى اختزال الآخر في شعارات وكلمات مثيرة وعاطفية وغير قابلة للأخذ والعطاء. والنتيجة هي تأصُّل النزعة المجنونة لاستئصال الآخرين أو تهميشهم إلى حدود الإذلال والاستعباد، والتي تحكم على الأخص الحياة السياسية العربية التي تحياها ببؤس وشقاء كل الأرض العربية.
وبالطبع فإذا كان غياب مثل ذلك التواصل يطبع العلاقات بين مكونات المجتمعات العربية المدنية، فإن غيابه أشد وأفجع بين مكونات المجتمعات من جهة وسلطات الحكم من جهة أخرى.
لقد عايش العرب في الماضي الصراعات بين القوى القومية العربية والقوى السياسية الإسلامية، بين الإسلاميين والاشتراكيين الماركسيين، بين ما عرف بأنظمة الحكم المحافظة وأنظمة الحكم التقدمية، وبين رافعي شعارات الأصالة المنغلقة ورافعي شعارات الحداثة الطائشة. وها هم اليوم يعايشون قمّة بؤسها في الصراعات الدموية المتوحشة التي يرونها يومياً تحدث في العديد من أقطار الوطن العربي، وعلى الأخص مشرقه.
في قلب موضوع غياب فكر وممارسة التواصل، بتلك الصورة المشرقة التي ذكرنا، صفة حياتية اجتماعية لازمت العرب طوال تاريخهم، صفة فرضت نفسها في أهم حقلين: حقل العلاقات القبلية، وحقل العلاقات الدينية والمذهبية. إنها صفة التعصب. والتعصب هو انغلاق فكري وشعوري على الذات ورفض فكري وشعوري لذات الآخرين. ويحار الإنسان من تجذر صفة التعصب المذموم في أمة تدعي أن وجودها قائم على حمل رسالة إلهية للبشر كلهم قائمة على التسامح الإلهي مع البشر في شكل توجيهات واضحة كل الوضوح من مثل: «وجادلهم بالتي هي أحسن»، أو «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، أو: ادفع بالتي هي أحسن (الحسنة) فإذا الذي بينك وبينه عداوة (لاحظ وجود عداوة وليس فقط خلاف) كأنه وليّ حميم.
فإذا كانت أمة العرب قد اعتبرت أن روح ثقافتها هي ما جاء في تلك الرسالة الإلهية المنزلة، فكيف سمحت وتسمح بأن تقوم العلاقات الاجتماعية في مجتمعاتها على التعصب المنغلق المتزمّت الأحمق، الذي هو نقيض لأي تواصل متفاعل متحاور مسالم؟
هل يريد الإنسان في أيامنا أن يتعرف على مقدار التعصب الذي تحياه مجتمعاتنا العربية؟ ما عليه إلا أن يقرأ ويستمع إلى ما يكتب ويقال من خلال وسائل الاتصالات الإلكترونية المختلفة حتى يتعرف على الرذيلة الدنيئة التي يمارسها الملايين: رذيلة التعصُّب، التي تمارس باسم النقاء والطهر الديني أو باسم الوطنية أو باسم الهوية القبلية أو باسم الانتهازية السياسية.
غياب التعصب، وبالتالي الانتقال إلى ممارسة التواصل، يحتاج إلى تربية إنسانية عقلانية أخلاقية، تبدأ في البيت وتنضج في المدرسة والجامعة وتنتهي في مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات سلطات الحكم. فالبيت الذي لا توجد فيه علاقات أخذ وعطاء، قبول ورفض، هو سجن. والمدرسة التي لا يكون هدفها الأساسي هو بناء القدرات الفكرية القادرة على ممارسة التحليل العلمي والنقد الموضوعي والتساؤل والاستقصاء والتجدد الدائم والانفتاح على الآخرين وعلى كل ما يحيط بالإنسان، هي مدرسة لا تعلم نبذ التعصب ولا تربي على التواصل. وينطبق الأمر على مؤسسات المجتمعات المدنية ومؤسسات سلطات الحكم، التي إن غابت فيها حرية التفكير والتعبير والحوار والمشاركة في اتخاذ القرار، فإنها ستصبح واجهات خشبية ومياهاً آسنة تتعفن فيها الحياة.
اليوم ونحن نرى الغياب التام لممارسة فضيلة التواصل العقلاني الأخلاقي بين الأفراد والجماعات والسلطات في طول وعرض بلاد العرب ندرك أن السكوت عن الرذائل في الأيام العادية لحياة الأمم سيقود إلى وقوف تلك الأمم عاجزة ومعتوهة أمام الحرائق والأزمات التي يتفنن البعض في إشعالها وتفجيرها.
هل هناك أفجع من غياب تام للقمة العربية، للجامعة العربية، للجبهات الوطنية، للتحالفات الإنقاذية في أمة يراد لها أن تموت؟ غيابها هو دليل على التجاهل التام لفضيلة التواصل في أيام الرخاء وأيام المحن.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"