في العقد الاجتماعي العربي

03:18 صباحا
قراءة 3 دقائق
يبدو من الصعب، معرفياً وعملياً، فهم حالة التدهور التي وصل إليها العرب، شعوباً ودولاً، من دون العودة إلى تشريح العقد الاجتماعي، من أجل فهم جملة المشكلات التي تعتري بنية ذلك العقد، وصولاً إلى استنباط الممكنات في إجراء تغييرات في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، تسمح بإجراء تحولات مرنة في النظام السياسي العربي، وتجنب التحولات الكارثية، حيث يكون السيناريو الأسوأ هو الصدام بين المجتمع، أو فئاته الأكثر تضرراً وبين النظم السياسية.

وعلى الرغم من تباين مسيرة الدولة الوطنية العربية في القرن العشرين، وفقاً لاختلاف الظروف المؤسسة لتلك الدولة بين قُطرٍ عربي وآخر، فإن تلك الاختلافات لا تمنع من رؤية العناصر والسمات المشتركة في العقد الاجتماعي للدول العربية، فثمة تشابهات كثيرة من حيث المآلات التي وصلت إليها العلاقة بين النظم السياسية وشعوبها، مع وجود محاولات التفافية من قبل النظم السياسية على المشكلات العديدة في العقد الاجتماعي، إلا أن تلك المحاولات، وعبر سبر أمثلة الدول التي ضربها «الربيع العربي»، تبدو مجرد تأجيل للمشكلات والأزمات، في محاولة للاستفادة من عامل الزمن، لكن من دون التفكير بطرح أفق استراتيجي يضع العقد الاجتماعي على سكة جديدة.
إن العقد الاجتماعي الذي تكثفه فكرة الشرعية التي يحوزها النظام السياسي هو صيرورة تحوّل، فالنظام السياسي مهما ادعى له من شرعيات خارج السياق الاجتماعي الاقتصادي، فإنه في نهاية المطاف هو ابن التاريخ وصراعاته المستمرة، وبالتالي فإن النظام السياسي لا يمكن له أن ينجو من الصراعات في البنى الاجتماعية والاقتصادية، وما محاولة ضبط تلك الصراعات عبر الأيديولوجيا أو الريع إلا مرحلة من مراحل التاريخ، سرعان ما تستنفد نفسها، ويغدو النظام السياسي مكشوفاً، فلا الأيديولوجيا قادرة على تلبية احتياجات الشعوب، ولا الريع حالة تتصف بالثبات والديمومة، خصوصاً في زمن العولمة، والتي تسهم في أحد جوانبها بكسر احتكار النظم السياسية، وتزود الفضاء الاجتماعي بمعارف وتطلعات جديدة، وتفرض لاعبين جدداً على مختلف الساحات، وباتت في مرحلتها الحالية قادرة على اختراق الشرعيات المحلية.

إن مسيرة الصراعات التي خاضتها أوروبا منذ عصر التنوير وحتى اليوم منحت الدولة صفة الحيادية، وجعلتها فوق جميع القوى المتصارعة في الفضاء الاجتماعي الاقتصادي، وضمنت في الوقت ذاته نوعاً من الإنصاف في التنافس بين القوى السياسية، بما تمثله من طبقات وأفكار ورؤى وبرامج، وبذلك تكون قد فككت أية إمكانية للاستحواذ من قبل فئة معينة على الدولة، وما هو مهم في هذا التفكيك للاستحواذ هو منع الصدام المجتمعي بين القوى المتنافسة، وتحييد الدولة عن الصراع، من خلال إقرار جميع القوى بالمبادئ الدستورية العليا، والتي يتفق الجميع عليها.
أما في العالم العربي فإن منظومات الولاء ما قبل الوطنية ما زالت هي التي ترسم ملامح العقد الاجتماعي، بينما تعمد النظم السياسية إلى تقييد القوى والفعاليات التي تعبر عن قوى اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، وتعمل على اختراقها وتفتيتها، ولقد أفضى هذا النهج إلى نتائج كارثية في بلدان «الربيع العربي»، حيث وضعت النظم السياسية في تلك البلدان مجتمعاتها أمام معادلة «النظام القائم أو الفوضى»، حيث إن المجتمعات في لحظة التغيير لم تكن تمتلك بنى سياسية ونقابية يمكن أن تنظم عملية التغيير، وتخفف من الخسائر، وتمنع الانهيار، وتجعل من اللجوء إلى العنف خياراً مستحيلاً.
إن التطور الطبيعي للتاريخ السياسي الحديث يؤكد أن فتح الباب أمام القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في تكوين العقد الاجتماعي الوطني هو الخيار الأفضل من أجل تفكيك عوامل انهيار المجتمعات والدول، وأن تحرير الدولة من الاستحواذ، والعمل على تحييدها من الصراعات، يجعلها ضامنة لسلاسة التغيّرات، وأن تقييد الفاعلين الاجتماعيين يجعل من معاناتهم ورقة قابلة للاستثمار من قبل قوى إقليمية أو دولية لها مصالح استراتيجية في تفتيت البنية «القومية» للنظام العربي.

لقد تعاطت معظم النظم السياسية العربية مع مجتمعاتها بوصفها قوىً ساكنة، أو كموضوعات لوجودها، ولم تلتقط جوهر التحولات التي طالت البنى المجتمعية، والحاجة إلى رؤية استراتيجية لإعادة تنظيم العقد الاجتماعي، والانتقال المتدرج من منظومات الولاء والطاعة القديمة إلى مؤسسات حديثة، تكتسب شرعيتها من الإجماع الوطني، بما يسمح بمعالجة الأزمات والمظلوميات، وهو ما سيتطلب بطبيعة الحال جملة من التدابير الدستورية والقانونية، وحالات من الفصل بين عمل المؤسسات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وظهور قوى جديدة تعبر عن تطلعات ومصالح أفرادها، وهو الأمر الذي لن يمر من دون عقبات، أو مواجهات.

حسام ميرو
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"