في معاني انتخاب خان رئيساً لبلدية لندن

03:16 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي

أمران يعرفهما بالتأكيد كل سكان لندن عن صادق خان، الأول هو أنه مهاجر باكستاني مسلم والثاني أنه ابن سائق باص فقير«وأمه تعمل في الخياطة»، ترعرع في حي شعبي في إحدى الضواحي اللندنية. رغم ذلك فاز الرجل بنسبة 57% من الأصوات (1.311.000 صوت) وهو رقم قياسي، إضافة إلى أن نسبة المشاركين في الاقتراع بلغت أكثر من 45% أي بزيادة 7% عن الانتخابات البلدية الماضية. إنه فوز تاريخي حقيقي، فللمرة الأولى يصل مهاجر مسلم إلى رئاسة بلدية عاصمة غربية كبرى.
لقد نجح رهان الحزب العمالي على رمزية المدينة الكوسموبوليتية التي تتيح النجاح والترقي الاجتماعي لذوي الطموح والعمل، في سعيه لشد انتباه الناخبين وإقناع المقاطعين بالتوجه إلى صناديق الاقتراع.
في المقابل تبين عقم استراتيجية المرشح المحافظ زاك غولدسميث (45% من الأصوات) الملياردير الأرستقراطي الذي سدد سهامه على هوية خان متهماً إياه بالقرب من المتشددين. بل إن رئيس الوزراء كاميرون، كما رئيس بلدية لندن الحالي المحافظ بوريس جونسون والطامح لخلافة كاميرون، شاركا غولدسميث، هذا الاتهام، كما فعلت عدة صحف محافظة. كاميرون قال إن خان يعمل كغطاء للإسلاميين المتطرفين. غولدسميث قارنه ب«الأشخاص المقرفين» للإسلام الراديكالي ونشر دعاية انتخابية عليها صورة باص محروق من تفجير 7 يوليو/تموز 2005 الإرهابي الذي ضرب لندن«قتل 56 شخصاً وجرح 700». كما ذكر بأن خان وقع، في عام 2006، عريضة مع آخرين في الغارديان تحمل السياسة الخارجية البريطانية الداعمة ل«إسرائيل» مسؤولية الإرهاب الذي ضرب لندن.
وكان خان يرد بهدوء وثقة بأنه «في اجتماع عام لا ندري من يتكلم مع من» وبأنه كمحام مختص بملفات حقوق الإنسان فمن الطبيعي أن يدافع «عن أشخاص مقرفين». كذلك أشار إلى إيمانه بالإسلام المنفتح المتسامح وبأن فتوى صدرت بقتله من قبل متطرفين بسبب تأييده للزواج المثلي.
خان الذي ولد وترعرع في حي توتينغ الشعبي الفقير في ضاحية لندن الجنوبية، وفي شقة تؤجرها البلدية بأسعار رخيصة للفقراء، لم يخجل من أصوله خلال الحملة الانتخابية. على العكس تماماً فقد حولها إلى ورقة انتخابية رابحة. لم يمل من التكرار بأنه ابن مهاجر باكستاني جاء إلى بريطانيا في عام 1970 وبأنه الخامس بين سبعة أخوة، وبأنه يصلي في المسجد ولا يحتسي الكحول وما يزال يعيش مع زوجته سعدية وولديه في الحي نفسه رغم أنه انتخب، في عام 2005، نائباً قبل أن يصبح في عام 2009 وزيراً للنقل في حكومة غوردون براون. كان أول مسلم يدخل في الدائرة الضيقة للملكة اليزابيت. فعندما عين وزيراً للنقل كان عليه، مع زملائه، أداء القسم أمام الملكة. فسئل، كما يُسأل زملاؤه عادة، «على أي إنجيل تريد أن تقسم ؟»، فأجاب: القرآن. وفتشوا فلم يعثروا على نسخة من القرآن الكريم، فما كان منه إلا أن أخرج واحدة من جيبه وأدى عليها القسم.
تركيز خان على أصوله الاجتماعية والطبقية والدينية هدف أيضاً إلى إبراز صورة العاصمة التي يمكن النجاح فيها. فقصة الرجل قصة نجاح جديرة بأن تصدر في رواية. فبعد عزمه على دراسة طب الأسنان غير رأيه ليدخل كلية الحقوق ويضحي محامياً في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان. نجاحه في مهنته هذه دفعه للتفكير بالعمل السياسي إلى جانب صديقه إد ميليباند الزعيم السابق للحزب العمالي، حيث صار نائباً أعيد انتخابه في عامي 2010 و2015.
فوز خان يعكس التغير الديموغرافي الكبير الذي عرفته العاصمة البريطانية والتي تشكل الأقليات الإثنية 40% من سكانها (ثلاثة أضعاف المتوسط الوطني العام). ويشكل المسلمون فيها 12.4% أي أكثر من مليون نسمة. مما لا شك فيه أن كثيراً من هؤلاء اقترعوا لمصلحة خان ولكن يصعب معرفة عددهم ولو بشكل تقريبي. ثم إن السياسة الهويتية سيف ذو حدين إذ إن جذور خان قد تكون جلبت له محبذين إلا أنها أخافت كثيرين في الوقت نفسه. أما قصة نجاحه «المثالية» فمن المؤكد أنها جلبت له إعجاب كثيرين، ولكن هؤلاء يصعب تعدادهم أيضاً. انتماؤه للحزب العمالي ساعده أيضاً ولكن تنبغي الإشارة إلى أن الحزب يعاني مشاكل كثيرة لاسيما منذ وصول جيريمي كوربين إلى زعامته والمتهم بيساريته المفرطة و«عدائه للسامية». لهذا السبب تفادى خان الكلام عنه وحتى الظهور معه إبان الحملة الانتخابية.
لقد برهنت هذه الانتخابات بأن العنصرية ليست استثماراً سياسياً مربحاً في بريطانيا. خان ركز كثيراً على التعددية والانفتاح والتسامح والاعتدال وتعددية الهوية: «أنا لندني وبريطاني ومسلم وباكستاني وأب وزوج وعمالي ومشجع لفريق ليفربول..» كما قال في مقابلة مع «النيويورك تايمز». هويته استخدمها سلاحاً في وجه الأرستقراطي المحافظ الأنيق الآتي من أهم المدارس والجامعات الخاصة، ابن الثري جيمي غولدسميث صاحب مجلة «الإكسبرس» الفرنسية، والذي تنحدر زوجته من سلالة روتشيلد الشهيرة بثرائها. إنهما صورتان متناقضتان تبارزتا في سباق محموم إلى بلدية لندن. وقد اختار اللندنيون صورة الهوية المتعددة.
علقت الصحفية ياسمين اليبهاي - غوردون في الغارديان بالقول: «فوز خان يهدم خطاب المتطرفين المعادين للغرب. كيف يمكن للجهاديين بعد الآن الاستمرار في نشر الاعتقاد بأنه ليس للمسلمين من مستقبل في أوروبا أو أن الغربيين يكرهون الإسلام؟». وهكذا يكون اللندنيون قد وجهوا، باقتراعهم لخان، رسالة قوية للإرهابيين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"