قالها إسماعيل صدقي: لا تعلموهم الحرب

04:46 صباحا
قراءة 5 دقائق

يبقى إسماعيل صدقي باشا شخصية فريدة في تاريخ مصر الحديث، فقد امتلك الرجل رؤية ثاقبة للأحداث واستشرافاً ذكياً للمستقبل، وقدرة فائقة على مزج السياسة بالاقتصاد وتوظيف المسائل المالية لخدمة القضايا الوطنية، وعلى الرغم من بعض النقاط السوداء في تاريخه السياسي بدءاً من العدوان على دستور الأمة لعام 1923 وتعطيله، إلى جانب توليه رئاسة الوزارة مرتين ضد إرادة الأغلبية متعاوناً مع القصر في ضرب حزب الوفد والحكم بدستور بديل وحزب مصطنع، رغم كل هذه البقع السوداء إلا أن تاريخه السياسي يقدم نمطاً فريداً في مسار الحركة الوطنية المصرية، فهو سياسي داهية تميز بالعقلانية والتجرد، ولم يعرف لغة مخاطبة الجماهير، ولم يبحث عن الشعبية، ولم يستخدم أساليب ديماجوجية في جذب العامة نحوه، ولكنه ظل دائماً مكروهاً وبقي مهيباً، وبعيداً عن معظم القلوب قريباً إلى بعض العقول.

كما أننا لا ننسى أنه من رفاق النضال الأوائل لسعد زغلول ونفي معه، لذلك فإنني لا أظن أن وطنيته كانت محل شك، ولكنه كان تجسيداً لمدرسة مختلفة في العمل السياسي تؤمن بالواقعية وتدرك الأبعاد الاقتصادية للأهداف الوطنية، ولا تحترم الشعارات النظرية أو الهتافات العاطفية، حتى أطلقت عليه الكاتبة الراحلة سنية قراعة لقب نمر السياسة المصرية. كما أن زميلتي صاحبة العلم والأخلاق التي رحلت عن عالمنا منذ سنوات قليلة الدكتورة منى محمد عبد المنعم أبو الفضل الأستاذة السابقة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية وابنة المرحومة الأستاذة الدكتورة زهيرة عابدين وسليلة أسرة استغرقت في العمل الاجتماعي والتطوعي لله والوطن قد أعدت أطروحتها للدكتوراه في كتابٍ بديع بالإنجليزية عن إسماعيل صدقي في مطلع سبعينات القرن الماضي عندما تزاملنا معاً في جامعة لندن تحت إشراف أستاذ العلوم السياسية الشهير الراحل البروفيسور فاتيكيوتس.

لقد قصدت من هذه المقدمة التعريف بالدور المتميز لطراز فريد من رجال الحركة الوطنية المصرية، لذلك شاعت حوله القصص والأقاويل، ولدينا عبارة تاريخية مهمة نقلت عنه من خلال منظوره الخاص للمسألة اليهودية والقضية الفلسطينية قبيل ميلاد دولة إسرائيل، فقد قال هذه العبارة التي اتخذناها عنواناً لهذا المقال (لاتعلموهم الحرب)، فالشعب اليهودي لم يكن عبر تاريخه الطويل محارباً جسوراً، ولكنه انشغل دائماً بأعمال المال والتجارة حتى تواترت النوادر حول حرصه وبخله وقدرته الفائقة على جمع الثروات. ونحن نتذكر أن وزارة المالية المصرية قد شغلها يهوديٌ مصري في الثلث الأول من القرن الماضي حيث لم يكن للمصريين مشكلة مع اليهودية كديانة، وكان المصريون اليهود جزءاً لا يتجزأ من الكيان الوطني، لذلك انزعج إسماعيل صدقي من عمليات التصعيد العسكري على الجانبين العربي واليهودي في أربعينات القرن الماضي واعتبرها نذير شؤم على مستقبل المنطقة. لقد تصور ذلك السياسي العظيم، لأن الذين يبرعون غالباً في كل ما يحترفون اليهود سوف يكونون بالضرورة محاربين قتلة وسفكة دماء إذا ما دخلوا ذلك الميدان. وكانت للرجل رؤيته الخاصة للصراع العربي الإسرائيلي في بداياته، فقد كان يعتقد أن المشكلة الفلسطينية يمكن أن تحل بالتفاهم الاقتصادي والتبادل التجاري لا بالحروب الدامية أو المواجهات العسكرية، ولنا على ذلك تعليق معاصر نسوقه من خلال الملاحظات الآتية:

* أولاً: إن التاريخ العبراني بفكره وثقافته قد عرف اليهودي التاجر، ولم يقدم صورة واضحة لليهودي المقاتل أو حتى اليهودي المزارع، ولكن النظرية الصهيونية قد علمت اليهود أمرين بالغي الخطورة، الأول هو استخدام العنف بدءاً من هجوم العصابات على القرى الفلسطينية الآمنة، بل وبعض الأهداف المهمة في الدول العربية المجاورة (مثال فضيحة لافون)، وصولاً إلى تكوين الهاجاناه كنواة للجيش الإسرائيلي الذي يحترف العدوان ويسعى إلى التوسع ويبتلع الأرض والمياه إلى جانب السطو الفاضح على حقوق الغير، أما الثاني فهو التفوق المذهل ل الإسرائيليين في مجال الإعمار والزراعة معاً حتى أصبحت الكيبوتز ثم المستوطنات نموذجاً للفكر الإسرائيلي الذي يخطط لكل شيء على حساب أصحاب الأرض والحق والتاريخ فى محاولة خبيثة لتبديل الأوضاع وتغيير المعالم.

* ثانياً: أظن عن يقين أن القضية الفلسطينية قد تعرضت للكثير من المآزق، فهى بحق قضية الفرص الضائعة، وربما كان فكر السياسي الداهية إسماعيل صدقي حلقة أولى من تلك الفرص، خصوصاً أن الرجل الذي مات قبيل قيام الثورة المصرية كان يخشى من التفوق العسكري الإسرائيلي لإدراكه أن اليهود يبرعون في كل ما يحترفون إذا ما تحوّل اليهودي الذي عرفناه في تاجر البندقية إلى مزارعٍ من طراز أول وإلى محاربٍ شرس ومقاتل عدواني، فكأنما علّم العرب الأمة اليهودية أهمية القتال وضرورة الاحتراف العسكري! وما زلنا نتذكر نموذج إرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق الذي كان يوجه دعواته للحكام العرب للالتقاء به في مزرعته متباهياً بأنه يمثل نموذج المزارع والمحارب في آنٍ واحد.

* ثالثاً: لا أدعو للبكاء على اللبن المسكوب، ولا أميل كثيراً إلى عبارة (لو أن) ولكنني أظن أن الأطماع الصهيونية كان يمكن أن نواجهها بأساليب أخرى وليس بالعمل العسكري وحده، خصوصاً مع بدايات الصراع العربي الإسرائيلي والعقود الأولى لظهور القضية الفلسطينية، إذ إنه رغم تسليمنا بالأهداف الصهيونية البعيدة والتي مرت على بلاط نابليون ودولة محمد علي وأروقة قصور سلاطين آل عثمان في الآستانة، ورغم إدراكنا بأن العقيدة الصهيونية لم تولد في مؤتمر بازل الشهير مع نهاية القرن التاسع عشر، إلا أنها تبدو أبعد من ذلك وأعمق تجذراً، كما أنها استغلت الحربين العالميتين الأولى (هزيمة ألمانيا) والثانية (قصة الهولوكوست) لكي تخرج على العالم بميلاد تلك الدولة السرطانية العدوانية التي تحترف قتل الأطفال وهدم البيوت على رؤوس أصحابها واغتيال القيادات وطمس التاريخ وتهويد القدس وتدنيس الأقصى، إنني أتساءل الآن هل كان بوسعنا في بعض مراحل الصراع العربي الإسرائيلي وخصوصاً المبكرة منها أن نتخلص من جرائم إسرائيل وعربدتها في المنطقة؟

* رابعاً: أظن وليس كل الظن إثماً مرةً أخرى أننا قد ابتلعنا الطعم من البداية، وأصبحنا جزءاً من مخطط صهيوني طويل المدى استهدفنا على امتداد العقود الأخيرة، واستغل نقاط ضعفنا وتسلل بين صفوفنا فعطل تقدمنا ودمر آمالنا القومية وسرق أحلامنا الوطنية، لذلك فإننا نعيد التفكير الآن بالنظر مليّاً إلى الوراء نستدرك ما فات، ونصحح الأخطاء، ونتطلع نحو مستقبل مختلف يسيطر فيه العقل وتسود معه الحكمة وتعود به المبادرة إلى الجانب العربي.

* خامساً: إن الوطنية المصرية قبل 23 يوليو 52 وبعدها لم تستوعب جيداً حجم الخطر الصهيوني والتصعيد الإسرائيلي، فبينما كان اليهود يمضون وراء أجندةٍ زمنية مدروسة كنا نحن نردد الشعارات ونغوص في التهيؤات ونستهين بالآخر، ونرسم الأحلام دون تخطيط لبلوغها أو تفكير في درجة واقعيتها مع غياب الرؤية وضعف البصيرة ونقص الوعي. لقد استفادت إسرائيل من أخطائنا وقامت على أنقاض أوهامنا ذلك أننا رفضنا الحلول غير التقليدية للصراع العربي الإسرائيلي، ولم ندرك أنه صراع اقتصادي تكنولوجي لا يقف عند البعد السياسي وحده، فالقضية الفلسطينية هي في النهاية مواجهة تاريخية وصدام حضاري لم نتمكن من التعامل معه وفقاً لمقاييس العصر ومفرداته وتعقيداته.

.. هذه أفكارٌ نجترها ونحن نقلب صفحات التاريخ المصري الحديث، لبلدٍ فرضت عليه المشكلة الفلسطينية فرضاً وزرعت على حدوده دولةٌ عدوانية تستنزف قدراته وتستهلك إمكاناته وتبدد موارده، وتأخذه بعيداً عن طريق التحديث ومسار التقدم، وهي تسعى الآن لإطفاء مصابيحه وتراجع دوره ثم إظهار الشفقة عليه والتعبير عن الشماتة فيه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"