قراءة في نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي

04:35 صباحا
قراءة 4 دقائق
د .غسان العزي

هذه الانتخابات بالتحديد، والتي جرت بين ٢٣ و٢٧ مايو/أيار المنصرم، كان لها أهمية كبرى، ليس بسبب الصلاحيات التي يتمتع بها البرلمان الأوروبي والتي لا تأتي إلا في المرتبة الرابعة بعد المجلسين الأوروبي والوزاري ثم المفوضية، ولكن لأنه يعكس المشهد السياسي والحزبي الأوروبي الذي تخوف المراقبون من هيمنة الشعبويين عليه بعد صعودهم اللافت في غير بلد أوروبي.
لكن التسونامي المتطرف الذي كان يخشاه كثيرون في أوروبا وخارجها لم يحدث، بل جاءت النتائج لتحمل دلالات منها ما كان مفاجئاً ومنها ما كان يتوقعه المراقبون.
على رأس هذه المفاجآت نسبة المشاركة في الانتخابات والتي تخطت ٥٠٪ للمرة الأولى منذ عشرين عاماً، الأمر الذي ذهب في عكس التحليلات القائلة بعدم اهتمام المواطنين الأوروبيين بالاتحاد. فقد دلت هذه المشاركة على أن هؤلاء لا يزالون ينظرون إلى هذا الاتحاد كمرجع صالح لمعالجة مشاكلهم الراهنة كالبيئة والبطالة والقدرة الشرائية والهجرة والهوية والأمن وغيرها.
صحيح أن اليمين الشعبوي حل في المرتبة الأولى في غير بلد أوروبي كبير مثل فرنسا وإيطاليا وبريطانيا أو حقق تقدماً ملفتاً في دول أخرى مثل ألمانيا وهنغاريا وبولونيا والنمسا إلا أنه في المحصلة لا يزال قليلاً في البرلمان الجديد الذي استحوذت على الأكثرية فيه أحزاب موالية للاتحاد الأوروبي، وهو أمر يتفق مع ما جاء في استطلاعات الرأي عشية الانتخابات والتي توقعت أن تربو شعبية الموالين لأوروبا على ٦٠٪ من الناخبين وأن تنخفض نسبة المناوئين لها إلى ما دون ٣٠٪. كذلك فإن الأحزاب التي تمتلك رؤية منفتحة حيال المشاكل الاجتماعية (المساواة بين الرجل والمرأة، الاهتمام بالمتقاعدين وكبار السن الخ.) شكلت أغلبية (٤٨٪) في مقابل ٣١٪ لليمين المحافظ جداً، وذلك على خلاف التوقعات، بمعنى أن هذه النتيجة تخفف من وهج «الانتصار الكبير للرجعيين» المرتبط بفوز اليمين المتطرف في دول أوروبية كبرى. كذلك كشف التقدم اللافت لأحزاب البيئة والخضر عن أن مسائل مثل التلوث البيئي والتغير المناخي تحظى باهتمام متزايد.
في رومانيا أدين رئيس الحزب الحاكم بتهمة الفساد فأودع السجن، وفي النمسا تم التصويت لمصلحة سحب الثقة من رئيس الوزراء اليميني المتطرف، وفي ألمانيا طرد الخضر الحزب الديمقراطي-الاجتماعي من المركز الثاني وحافظ حزب أنجيلا ميركل الديمقراطي - المسيحي على المركز الأول على الرغم من تراجعه وتقدم اليمين المتطرف. في فرنسا لم يستقطب اليمين الديغولي التاريخي أكثر من ثمانية في المئة من الناخبين وتراجع الحزب الاشتراكي، التاريخي هو الآخر، كما حزب «فرنسا الأبية» اليساري الراديكالي، إلى حوالي الستة في المئة واحتل «التجمع الوطني» اليميني المتطرف المرتبة الأولى يليه حزب الرئيس ماكرون» الجمهورية إلى الأمام». في المملكة المتحدة، مملكة الحزبية-الثنائية، لم يتمكن الحزبان الكبيران معاً، العمالي والمحافظ، من استقطاب أكثر من ربع الناخبين وتقدم حزب البريكستي نيجل فاراج إلى ٣٢٪.
وفي إيطاليا تقدم حزب الرابطة اليميني المتطرف بزعامة ماتيو سالفيني على كل الآخرين. وفي اليونان اضطر رئيس الوزراء إلى الدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة بسبب هزيمته في هذه الانتخابات.
هموم الناخبين والإشكاليات التي يصوتون من خلالها ليست واحدة بالضرورة في كل البلدان الأوروبية، رغم ذلك أرسل هؤلاء الناخبون، كل من بلده ومن موقعه، رسالة واحدة تعبر عن توقهم للتجديد وعن رفضهم للأحزاب التقليدية الكبرى، من اليمين واليسار والوسط على حد سواء، والتي تعاقبت على حكمهم منذ وقت طويل. وفي المحصلة جاء هؤلاء الناخبون ببرلمان أوروبي على صورة المشهد السياسي المتخبط في معظم البلدان الأوروبية والذي يعيش في خضم تحول سياسي كبير.
في هذا البرلمان الجديد خسر الحزبان الشعبي الأوروبي اليميني والاشتراكي اليساري الأغلبية التي كانا يتوالان عليها منذ الانتخابات الأولى في العام ١٩٧٩، إذ حصل الأول على ١٨٠ مقعداً من أصل ٧٥١ والثاني على ١٥٠ مقعداً. وبالتالي فإنهما معاً لن يتمكنا من تشكيل ائتلاف يستحوذ على الأغلبية. هناك كتلة وسطية-ليبرالية (١٠٧ مقاعد) على صورة حزب الرئيس ماكرون «الجمهورية إلى الأمام» وكتلة إيكولوجية خضراء (٧٠ مقعداً) جاءتا لتعكرا صفو الانقسام الأيديولوجي التقليدي بين يمين ويسار في القارة القديمة، والذي يبدو أنه يعيش أيامه الأخيرة لمصلحة انقسامات جديدة لم تتضح معالمها تماماً بعد.
بالنسبة لليمين المناهض للاتحاد الأوروبي فقد حصل على ما مجموعه ١٧١ مقعداً ( ٢٢،٨٪ )، وهو لن يشكل مجموعة برلمانية واحدة لأن اليمين «السيادوي «(٥٨ مقعداً) أعلن بأنه لن يتحالف مع اليمين المتطرف. هذا الأخير القائم خصوصاً على تحالف « أوروبا الأمم والحريات» بين الإيطالي ماتيو سالفيني والفرنسية مارين لوبين لا يتجاوز عدد مقاعده ال٥٨ (٧،٧٪) . وإذا كان ثمة احتمال أن ينضم إليهما ائتلاف « أوروبا الحرية والديمقراطية المباشرة» القائم بين حزب ميجل فاراج البريكستي البريطاني و»حركة النجوم الخمس» الإيطالية ( ٥٤ مقعداً) فإن هذا التحالف سيخسر مقاعد فاراج ال٢٩ في حال خروج بريطانيا المحتمل من الاتحاد الأوروبي خلال العام الجاري.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"