قمة وضاعت

03:04 صباحا
قراءة 3 دقائق
جميل مطر

أعلنوا عن قمة عربية تنعقد في بيروت، عاد بصيص الأمل. أطل على المدينة فانتعشت، ارتدت الطبقة الحاكمة أفخر ما في خزائن ثيابها، توقف المرور في شوارع مهمة، راحت الصحف القليلة تجرب مانشتات محتملة، ويحلم أصحابها ومحرروها بمواعيد لمقابلات. تراهن الدبلوماسيون الأجانب واستعدوا فأوصوا مصادرهم وزبائنهم. نامت العاصمة ليلة غابت فيها الأحلام، وحلت الكوابيس لتستيقظ على يوم بلا قمة. يوم جديد تستيقظ فيه الشعوب العربية على فرصة ضاعت وأمل خاب.
استيقظ قليلون مثلي على وقع مناقشات وخطابات وحوارات جارية حول الدورة الجديدة لمؤتمر دافوس، هناك كما جرت العادة في السنوات الأخيرة يجتمع عظماء وقادة الجماعة الرأسمالية العالمية. هذه المرة الخَطب كما يقال جلل، ليس فقط لأن الرأسمالية كما عرفها الغرب مهددة فقد تمددت أزمتها، التي نشبت في عام 2007 إلى أطول من قدرتها على التحمل، وقدرتها كما كنا نسمع أسطورية، ولكن الخطب جلل أيضا لأن الجانب الليبرالي في هذه الرأسمالية تحديداً، الذي ميزها عن ديمقراطيات أخرى أصابه خلل شديد بل بالغ الشدة والغرابة.
تصادف أن اطلعت قبل يومين على أحدث تقرير أعدته إدارة المخابرات الحربية بوزارة الدفاع الأمريكية عن وضع جيش التحرير الصيني وتعليقات خبراء عليه وعلى سياسات الدفاع الصينية في الأجل المنظور.
فهمت أن الصين تبذل جهوداً هائلة في تدريب مختلف أفرع القوات المسلحة على التفاعل فيما بينها والعمل مشاركة. أعرف أن الصين لم تدخل حرباً، أي لم تجرب جيشها منذ أكثر من أربعين عاماً. المهم أن كل التقارير تشير إلى أن هذا الجيش يجب أن يكون مستعداً وعلى أكمل وجه في ظرف سنوات قليلة جداً لسببين على الأقل عاجلين. السبب الأول يتعلق بأحوال الغضب ومظاهر القلق التي تنشأ بسبب احتكاك العمال الصينيين بالسكان المحليين على طول مسافتي الحزام والطريق في المبادرة التي تحمل اسميهما. قرأت على كل حال أنه تقرر مؤخراً أن يتولى الجيش الصيني حماية المنشآت والمواطنين الصينيين على امتداد مشاريع المبادرة. السبب الثاني يتعلق بنظرة مستقبلية للاستراتيجية الدفاعية الصينية. وأظن أنه قد صار واضحاً لي بدرجة معقولة أن هناك في خرائط الدفاع الآسيوية ثلاث خطط استراتيجية مهمة.
الأولى خطة طويلة الأجل تعد لها منذ سنوات المؤسسة العسكرية الأمريكية لتحقيق انسحاب من آسيا كامل وإن متدرج التنفيذ، عملاً بمبدأ يتداول بكثرة في واشنطن هذه الأيام، وهو «اتركوا آسيا للآسيويين». وبهذه المناسبة لا أذكر أن أحداً ذا حيثية في الغرب اعتبر العرب من الآسيويين.
الثانية، مشروع روسي يحمل العنوان التالي «الدفاع عن أوراسيا مسؤولية روسية». مشروع كهذا لا يخفي طموحاً قديماً لروسيا القيصرية والسوفييتية تمتد بفضله خطوط الدفاع عن الدولة الأم التي هي روسيا من ساحل الباسيفيكي في أقصى الشرق إلى وسط أوروبا وقلبها النابض دائماً.
الثالثة، وهي رؤية استراتيجية صينية للدور الذي سوف يخول لجيش التحرير الصيني حق التدخل لحماية كل الأقاليم والبلاد التي ستخضع بشكل أو بآخر وبصيغة أو أخرى لنفوذ، ولا أقول لهيمنة، الصين. خاصة وأن الهيمنة كلمة منبوذة من قاموس الدبلوماسية في الصين، إيماناً بأن لا هيمنة في الاشتراكية.
لا أعتقد أن المشروع التوسعي «الإسرائيلي» يحتاج مني إلى عرض موجز أو مفصل. كلنا صرنا نعرفه حق المعرفة. بأفعاله زرع في نفوسنا الكره له ولكل ما يمثله أو يتشبه به في الهيمنة الغربية والاستعمار طويل الأجل.
رضعنا رفضه مع حليب أمهاتنا ورضعتموه أيها الشباب القراء مع حليب أمهاتكم.
هناك بلا شك رؤية «إسرائيل» لدورها في مواجهة الرؤى الأمريكية والروسية والصينية أو الاستفادة منها. أقول بلا شك لاقتناعي بأنها دولة تقدمت وعرفت كيف ترسخ التخلف فيما حولها واستعدت عسكرياً ونووياً لمواجهة أكثر من احتمال، كلها بمساعدة أمريكية وبعضها بدعم من جهة عربية أو أخرى. قبل أسابيع كانت هناك في القرن العربي، وقبل أيام كانت هناك في القرن الإفريقي تتسابق مع المتسابقين ثم انتقلت إلى تشاد تسبق غيرها.
أزعم أن جميع هذه الرؤى أو الخطط اختارت أن يكون إقليم الشرق الأوسط بداية أو نهاية حلم «هيمنة» أو سيطرة بحجم تاريخي وإمكانات هائلة. أزعم أيضاً أنها تركز من الآن على قلب هذا الإقليم، أي على القلب العربي.
الغريب جداً في أمر القلب العربي للشرق الأوسط وحاله على ما نعرف أن تأتيه فرصة في شكل قمة يجتمع فيها أهل القرار ليتدبروا أمرهم، وأمر القلب الذي ينتمون إليه وليبحثوا لبلادهم عن مواقع في هذه الرؤى والخطط ويتدارسوا كيف الخلاص من سباق لا مصلحة لنا فيه، ومع ذلك يقررون بكامل إرادتهم أن يدعوا الفرصة تمر فيفقدوها.
ما زلت غير مصدق أن فرصة قمة أتتهم فبددوها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"