لحظات تَوَحش فيها التاريخ

أفق آخر
03:57 صباحا
قراءة 3 دقائق

لكل مؤرخ مَنْ يملي عليه من الأباطرة، أو ما يملي عليه من أيديولوجيات ومفاهيم، لهذا لم تكن لحظات توحش التاريخ هي ذاتها في رواياتهم جميعاً .

وما رآه جيبون مؤرخ سقوط الرومان، ليس كالذي رآه توينبي أو ويل ديورانت . وبالنسبة إلى مؤرخينا العرب، ثمة فوارق لا في الأساليب فقط، بل في الرؤى أيضاً، فابن الأثير مثلاً رأى ذروة توحش التاريخ في غزو المغول للعراق عام 1258 ميلادية عندما بنوا أبراجاً من جماجم الناس، لهذا تمنى ابن الأثير لو أن أمه لم تلده كي لا يرى ما رأى، أما ابن إياس صاحب بدائع الزهور فقد رأى ذروة توحش التاريخ في ذلك التحالف الشيطاني بين الكوليرا والفقر والظلم في أيامه، فالجياع كانوا يختطفون المارة ولا يتورعون عن أكل لحمهم من شدة الجوع، ويروي أنه رأى جياعاً يأكلون بغلة القاضي، وثمة آخرون أكلوا الموتى . ولو شئنا الاستطراد في كل ما قاله ابن إياس لبدت لنا المشاهد الفظيعة التي يصفها وكأنها من الجحيم .

وهناك مؤرخون منهم غربيون رأوا ذروة توحش التاريخ في الحروب الصليبية عبر حملاتها المتعاقبة على القدس . بينما رأى آخرون أن هذا التوحّش بلغ أوجه في الحربين العالميتين الأولى والثانية .

لكن للفنانين من رسامين وشعراء مقتربات أخرى، فذروة هذا التوحش بالنسبة إلى فنان مثل بابلو بيكاسو هو ما حدث في قرية غورنيكا التي خلد فيها تراجيديا الحرب الأهلية الإسبانية .

فهل هناك من يشك الآن في أن العقدين الماضيين شهدا توحشاً أشد ضراوة من كل ما وصف سابقاً؟ فالقسوة الآن في أقصى تجلياتها العنيفة، وثمة تنكيل متبادل بين الجلادين وضحاياهم، وكأن هذا التوحش تحول إلى ثقافة أو مناخ مبثوث في الكوكب .

وإذا كانت هناك لحظات مضادة للحظات التوحش في التاريخ، فهي بالضرورة لحظات التسامح أو ما عرف لدى العرب في موروثهم الأخلاقي والديني: العفو عند المقدرة .

لكن مثل هذه ا للحظات أصبحت نادرة، لأن العنف بلغ مراحل بالغة العسر على الهضم العقلي أو تقبل الوعي لها . إن توحش التاريخ، كما تجسد في العقدين السابقين، قد يستمر إلى ما هو أبعد ليس فقط في تحويل القتل والتشريد والتنكيل بالبشر إلى أمر يومي مألوف، ولا هو أيضاً في ارتفاع منسوب الجرائم في مختلف ميادين الحياة، إنه أولاً وقبل كل شيء في تأقلم الإنسان مع هذا الشر الذي يوصف دائماً بأنه طارئ، لكنه الآن أصبح مقيماً ومزمناً وما من بشائر تلوح في الأفق لإعلان نهاياته .

بعد الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن العشرين وحتى خلالهما ظهرت كتابات في أوروبا تنذر بسقوط الحضارة الأوروبية كلها، ومنها ما كتبه أزوالد شبغلر الألماني الذي كان يكتب في غرفة عالية بمدينة شتوتغارت ويرى دخان الحرب وخرائبها من النافذة، وفي الفنون ظهرت تيارات عدمية تفرغ الحياة من مضمونها الأخلاقي كالسوريالية والدادائية وغيرهما، حتى أدب اللامعقول ومسرح العبث ما كانا ليظهرا لولا إحساس الأوروبيين خلال الحربين بأن الحياة فقدت جدواها وانعطبت بوصلتها الأخلاقية .

لا نعرف بالضبط وحتى الآن من سيتولى رواية هذا التوحش الذي بلغه التاريخ خارج التوثيق العاجل عبر الميديا والفضائيات بشكل خاص، فالأحداث ليست سطحاً فقط، والغاطس من أسرارها أو المخفي هو الأعظم .

ما التوحش إن لم يكن كل هذا الدم الذي سال في شوارع وأزقة، ونزف حتى من صفحات الجرائد والشاشات؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"