لقاء في لندن

05:07 صباحا
قراءة 4 دقائق

عدت من زيارة إلى لندن، تلك المدينة التي شاءت ظروف حياتي أن أرتبط بها دبلوماسياً شاباً وطالباً للدكتوراه، ثم زائراً بشكل منتظم يتواجد في تلك العاصمة، التي تبدو لي كأنها عاصمة شرق أوسطية من فرط اهتمام دوائرها بذلك الإقليم، ووجود أكبر عدد من الخبراء في شؤونه متفوقة بذلك على معظم الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك كان طبيعياً أن أرتبط فكرياً وثقافياً بتلك المدينة التي عرفت العرب وعرفوها، فبريطانيا هي التي دفعت إلينا بمعظم المشروعات السياسية في تاريخنا الحديث وليس أهمها إنشاء جامعة الدول العربية، ولا آخرها مساعدة سلطات الانتداب البريطاني على قيام دولة إسرائيل . . إنها بريطانيا دولة وعد بلفور ولورنس العرب والجنرال جلوب ومونتجمري العلمين .

إنها باختصار شريكٌ تاريخي فرض نفسه علينا رغم النقاط السوداء، بدءاً من مأساة دنشواي عام 1906 وصولاً إلى المشاركة في جريمة العدوان الثلاثي المسماة بحرب السويس عام ،1956 لهذه الأسباب مجتمعة فإنني عندما أذهب إلى لندن أقوم بفتح عيوني وآذاني وعقلي، وقلبي أيضاً، للاستماع إلى الآخر والحديث إليه والتنقل بين كمٍ هائل من المعلومات الدولية والإقليمية التي تبدو أمامي في حاجة إلى تحليل، ولقد أقام بعض الأصدقاء على شرفي غداء عمل في مطعمٍ جديد مواجه مباشرةً لمبنى البرلمان العتيق، ولقد دار بيننا حوار طويل أنا أتحدث وهم يسألون، ثم أنا أتساءل وهم يجيبون، والآن دعني ألخص في النقاط التالية أهم ما دار حوله الحديث .

أولاً: لقد طرحت على المجموعة بوضوح موقف مصر من مسألة غزة، وكيف أن القاهرة تدفع فاتورة الانقسام الفلسطيني والاختلاف العربي والاستقطاب الإقليمي والغطرسة الإسرائيلية في آن واحد، وأوضحت بشكل مباشر أنه يعز على المصريين الذين ينتمون إلى بلد التضحيات الكبرى من أجل القضية الفلسطينية، أن يكون ذلك العائد الذي يتلقونه عربياً وإقليمياً من حجم الانتقادات الظالمة، هو اختزال القضية الفلسطينية كلها في مسألة معبر رفح الذي كان مفتوحاً عام 2009 لمن لايعلم 149 يوماً، والآن لم يغلق منذ حادث مذبحة المياه الدولية التي ارتكبتها إسرائيل ضد نشطاء السلام الذين كانوا يسعون لرفع الحصار الظالم عن غزة، التي تمنى السياسي والعسكري الإسرائيلي الراحل إسحاق رابين أن يستيقظ من نومه ذات صباح لكي يبلغه معاونوه بأن غزة كلها قد غرقت في البحر . فإسرائيل ترى فيها عبئاً أمنياً وسياسياً لا تقدر على مواصلة دفع ثمنه، ولعل ذلك يفسر انسحابها الأحادي منها منذ عدة سنوات، لأن الفاتورة السياسية والعسكرية باهظة بسبب الاكتظاظ السكاني ووجود حركة حماس كتجسيدٍ كبير للمقاومة الإسلامية ضد الاحتلال الإسرائيلي المستمر، وأضفت إلى ذلك أن خريطة سيناء مقدسة في الوجدان المصري والضمير الوطني منذ فجر التاريخ، معترفاً بأن مسألة غزة ليست همّاً فلسطينياً فحسب، ولكنها أيضاً هاجس مصري تحملناه عبر العقود الستة الأخيرة .

ثانياً: لقد تدخل السفير المصري مكملاً وشارحاً لجهود القاهرة ودور الدبلوماسية المصرية في المصالحة الفلسطينية، والسعي نحو السلام العادل والدائم لواحد من أكثر صراعات الدنيا تعقيداً وصعوبة، وهو الصراع العربي الإسرائيلي، وكان من الطبيعي أن يتطرق الحديث إلى الوضع السياسي الداخلي في مصر باعتباره كما عبروا عن ذلك صراحة هو المؤشر الحاكم في استقرار الشرق الأوسط كله، فأسهبت في شرح الظرف الداخلي للحالة المصرية، مؤكداً أنني لا أعيش في الوهم ولا أدعي أن الأمور كلها وردية، ولكنني أتابع في الوقت ذاته مسيرة الإصلاح معترفاً بأن مصر، كغيرها من دول المنطقة، تعاني من الفساد المالي والإداري الذي يكاد يطاول الحياة السياسية أيضاً، وأن لدينا تطرفاً دينياً نعاني من نتائجه في محاولة إخلاله بالشخصية الوسطية لمصر والهوية الوطنية لأكبر دولة عربية، ثم أضفت أن مصر تمر بمرحلة تحولٍ كبير يبدو جوهرها إيجابياً على المدى الطويل، وإن بدا لنا سلبياً على المدى القصير .

ثالثًا: أشهد أن الأصدقاء البريطانيين كانوا على مستوى رفيع من الفهم لطبيعة الحالة المصرية على نحوٍ أدهشني كثيراً، فهم يناقشون القضايا بدءاً من مستقبل الحكم في مصر وصولاً إلى قتيل الإسكندرية الذي لم تجف دماؤه بعد، لقد كان ذلك طبيعياً من ساسة بريطانيين يعرفون الشرق الأوسط عن قرب ويرصدون تطور الأوضاع فيه عن كثب، ويعرفون قدر الدولة المصرية في استقرار المنطقة وتوجه دورها نحو المستقبل، لأن مصر دولة معروفة باحترامها لمسؤولياتها الدولية والتزاماتها الإقليمية، فضلاً عن أن لديها أكبر جيوش المنطقة وأنشط جهاز دبلوماسي فيها .

رابعاً: تحدث الأصدقاء البريطانيون عن الدور الأوروبي في الشرق الأوسط رداً على انتقادي لضعفه وتبعيته لواشنطن، رغم أنه يمكن أن يلعب دوراً سياسياً نشطاً ولا يتوقف عند حدود المانح الأول للشعب الفلسطيني اقتصادياً، لأنه يتطلع أيضاً إلى الدور الأوروبي سياسياً، فالاحتلال الإسرائيلي مستمر وجرائمه لا تتوقف والدعم الأمريكي يتزايد، وخيبة أملنا في ساكن البيت الأبيض المنتمي من حيث الأصول والنشأة للإسلام والقارة الإفريقية، تبدو بغير حدود .

هذه ملاحظات سريعة للقاء ثري في عاصمة الإمبراطورية التي كانت لاتغرب عنها الشمس، ثم أصبحت الآن حليفاً أمريكياً وشريكاً أوروبياً ولكن تأثيره محدود في الشرق الأوسط في الحالتين، لأن الشمس غابت عن الإمبراطورية، كما أن دورها التاريخي في المنطقة يؤكد أن معظم مشكلاتنا كانت أيضاً صناعة بريطانية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"