لقاء مع السفير الفرنسي وخواطر حول "اليونيسكو"

04:51 صباحا
قراءة 5 دقائق

تربطني بالثقافة الفرنسية علاقةٌ غريبة، فقد كنت أود دائماً أن أكون ممن يتحدثون الفرنسية بطلاقة وممن يشار إليهم بالقول هذا فرانكفوني مثلما كنت أتمنى أن أدرس القانون، وأن أكون محامياً بدلاً من أن أدرس الاقتصاد والعلوم السياسية لكي أصبح دبلوماسياً، ولكن كلتا الأمنيتين لم تتحققا إذ ليس كل ما يريده المرء يدركه. وقد حاولت تعويض هذا النقص باهتمامٍ شديد بفروع القانون العام والخاص وحفاوة بالغة تجاه العلاقات والمنظمات الدولية، أما الثقافة الفرنسية فقد استغرقت كثيراً في متابعتها حتى أصبحت بعض المؤسسات الفرنسية تدعوني للحديث عن الوجود الفرنسي في الشرق وتاريخ الحملة الفرنسية على مصر وآثار نابليون في أوروبا المعاصرة.

وأيقنت فضل الفرنسيين ثقافياً على كثيرٍ من الدول التي احتلوها أو عبروا عليها، وسوف يبقى كتاب وصف مصر برهاناً تاريخياً على ما نقول، وذلك رغم اعترافنا بقسوة الاستعمار الفرنسي وجرائمه. وعندما احتدم جدلٌ منذ سنوات قليلة في الذكرى المئوية الثانية للحملة الفرنسية بين رأيين متناقضين يتحمس الأول لها ويرى فيها بداية الصحوة وميلاد الدولة المصرية الحديثة حيث يتناول دعاة هذا الرأي الحملة من منظورٍ ثقافي بحت، أما أصحاب الرأي الثاني فهم يرون في الحملة الفرنسية مجرد غزوٍ عسكري حاول به بونابرت أن يؤسس امبراطوريته وراء البحار، وأن يصنع ركيزة استعمارية ينطلق منها لغزو دول المشرق العربي، وقد كتب المفكر الكبير د. فؤاد زكريا مقالاً مهماً شارك به في ذلك الجدل تحت عنوان دهاء التاريخ وعقد مقارنة بين الحملة الفرنسية لنابليون على مصر والحملة المصرية لعبدالناصر على اليمن.

ولكننا لا ننكر في النهاية أن الفرنسيين يهتمون بدورهم الثقافي عالمياً، بل إنني أتذكر أنه بعد غزو أفغانستان وإقصاء حركة طالبان سعت الدول المختلفة لإقامة سفاراتٍ في كابول بينما حرص الفرنسيون فقط على إعادة فتح مدرسة الليسيه! فهم معنيون بالشأن الثقافي قبل غيره وتلك سمة يتميزون بها ويتفوقون أحياناً بسببها، وما زلت أعتقد أن عرب شمال إفريقيا باستثناء ليبيا يتمتعون بميزة التواصل مع أوروبا والغرب ليس بسبب القرب الجغرافي فقط ولكن أيضاً بسبب حيازتهم اللغة الفرنسية التي يتحدثون بها كلغةٍ ثانية بل كلغةٍ أولى أحياناً. ولقد زارني السفير الفرنسي في القاهرة مؤخراً ودار بيننا حديثٌ طويلٌ وممتع امتزجت فيه الثقافة بالسياسة والاقتصاد بالاجتماع، وعرجنا أثناءه على خصوصية العلاقة المصرية- الفرنسية، وكيف أن ثلاث سنواتٍ فقط من الوجود الفرنسي أثناء حملة نابليون قد تركت بصماتٍ قوية في التعليم الفرنسي بمدارسه العريقة وفي المجموعة المدنية المصرية بالدراسات القانونية والتي تأثرت بالكود النابليوني، حتى إن الثقافة الفرنسية ما زالت مرتبطة في العقل المصري بالارستقراطية والرقي بل أحياناً بالثراء المادي أيضاً، وقد سألت السفير الفرنسي المثقف والذي خدم في مصر دبلوماسياً صغيراً من قبل ثم عاد سفيراً لبلاده في عاصمة خدم فيها منذ سنوات طويلة فأصبح عليه دائماً أن يتذكر وأن يقارن وأن يبحث عن أصدقائه القدامى.

لقد قلت للسفير في لقائنا ذلك إنني أريد أن أعرف منه اختياره المفضل لأكبر شخصيةٍ في تاريخ فرنسا الحديث لأنني متأرجحٌ بين نابليون بونابرت وشارل ديجول، فردّ عليّ السفير بشكل قاطع أنه يعطي صوته مباشرة للجنرال ديجول محرر فرنسا من النازي ومنقذها بعد ذلك من ورطتها في الجزائر، وقد أضفت إليه أنني أحمل تقديراً خاصاً أيضاً للرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران لأنني رأيته عن قرب، واستمعت إليه مرات عدة، وبهرتني رصانته وعمق رؤيته وعشقه لمصر، وقد امتد حديثنا السفير الفرنسي وأنا إلى موضوع الساعة وهو الخاص بفرص مصر في الفوز بمنصب مدير عام اليونسكو الذي رشحت له الفنان فاروق حسني وزير الثقافة المصري حتى لا تخلو الساحة العالمية من احتلال مصر لمنصبٍ دوليٍ كبير، إذ يغادر د. محمد البرادعي موقعه المرموق مديراً عاماً للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وربما يدخل إلى الساحة الدولية عندئذٍ الفنان فاروق حسني مديراً عاماً لليونسكو، ولقد تمحور حديثنا في موضوع اليونسكو حول النقاط التالية:

أولاً: يرى السفير الفرنسي أن بلاده داعمةٌ للمرشح المصري، وأن فاروق حسني هو المرشح الأوفر حظاً في الوصول إلى ذلك المنصب بين بقية المرشحين، وقد كان الوزير فاروق حسني أثناء حديثنا يزور العاصمة الصينية كجزءٍ من حملته الانتخابية الدولية، فقال السفير الفرنسي إنه يتفاءل بتأييد الصين لأن أي مرشحٍ تدعمه يكون هو الفائز دائماً.

ثانياً: سألت السفير عن السبب في عدم تحمس وزير خارجية فرنسا كوشنير للمرشح المصري فقال إنه لا يعتقد ذلك، وإن الموقف الفرنسي يتجه في معظمه إلى الإيجابية في دعم المرشح المصري، وعندما أبديت له مخاوفي من أن التصويت سري لمنصب المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية بما قد يسمح بالتآمر على أحد المرشحين وتغليب الموقف الشخصي على حساب إرادة الدولة التي ينتمي إليها مندوبها في عملية الانتخابات استبعد السفير إمكانية حدوث ذلك.

ثالثاً: تحدثت عن أهمية حيازة مصر لهذا المنصب الرفيع لأن مصر بلدٌ عريق وهي صاحبة الحضارة الأم وملهمة ثقافات البحر المتوسط والمنطقة العربية كلها، وأضفت أن أغلى سلعة مصرية هي السلعة الثقافية عبر التاريخ فمصر بلد منتج للثقافة بالدرجة الأولى وهي أحق بهذا المنصب لأسباب عديدة.

رابعاً: لقد كان لمصر تجربة سابقة في الانتخابات الماضية عندما تقدم المصري المتألق د. إسماعيل سراج الدين لهذا المنصب ونافسه عليه الوزير الشاعر غازي القصيبي من المملكة العربية السعودية مما أدى إلى تفتيت الأصوات وحصول المرشح الياباني الرئيس الحالي لليونسكو على المنصب، وقد آن الأوان لكي تحوز مصر بلد التراث والحضارة هذا المنصب خصوصاً أنها واحدة من أقدم بلاد الدنيا إن لم تكن أقدمها على الإطلاق.

خامساً: تطرق الحديث إلى المحاولات الإسرائيلية التي كانت مدعومة أمريكياً لتعطيل وصول المرشح المصري لمنصب المدير العام لليونسكو استناداً لأسبابٍ واهية ومفتعلة، وكان رأي السفير الفرنسي أن تدخل الرئيس مبارك شخصياً قد حسم هذا الأمر إلى حد كبير، وأزاح عقباتٍ أمام فاروق حسني للوصول إلى هذا المنصب، وأضاف السفير أن معلوماته تؤكد أن إسبانيا وإيطاليا متحمستان للمرشح المصري وهما دولتان مهمتان داخل أروقة اليونسكو.

سادساً: لقد اتفق حديثنا المشترك على صعوبة حصول أي مرشح على المنصب من أول جولة وإن كانت التوقعات تشير إلى حصول فاروق حسني على أعلى الأصوات، ولكن الفيصل في الأمر هو كفاية تلك الأصوات لفوز المرشح من عدمه مما يؤدي إلى تساقط عدد من المرشحين خلال الجولات المختلفة إلى حين الوصول إلى الجولة الختامية، وقد كانت لي تجربة سابقة في التصويت عندما كنت مندوباً مقيماً لمصر لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية عند اختيار د. محمد البرادعي لمنصبه الرفيع الذي شغله بتميز واقتدار.

كانت تلك هي خلاصة حوارٍ دار بيني وبين السفير الفرنسي أثناء زيارته لي قبل مغادرته إلى بلاده ليقضي هناك بضعة أسابيع سوف تجري فيها الأنهار وتموج البحار ويدور الليل والنهار وبعدها يأتي الخبر اليقين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"