لكسر الصمت على شذوذ نووي

05:04 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمود الريماوي

مع التحفظات على كل ما يمكن أن يجعل مستقبلاً من الجارة إيران دولة نووية، ومع الإقرار بحق دول الخليج في الطمأنينة على مستقبلها وحفظ أمنها الاستراتيجي بعيداً عن امتلاك أي أحد لأسلحة دمار شامل، فإن المرء لا يملك إلا أن يشاطر وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف في قوله مؤخراً في مقال نشرته «الغارديان» البريطانية : «إن الاتفاق الذي تم التوصل إليه في فيينا يدفع بجميع دول منطقة الشرق الأوسط إلى التخلص من الأسلحة النووية». والمقصود أنه ينبغي أن يدفع.
وإذا كانت دول عديدة في العالم بينها أغلبية الدول العربية قد أبدت تحفظاتها وحتى مخاوفها المشروعة من أي طموح نووي مفترض لطهران، فإنه من دواعي السخرية أن تنضم «تل أبيب» إلى حملة رفض الطموحات الإيرانية، فيما القاصي والداني يعرف أن الدولة الصهيونية هي الدولة النووية الوحيدة في المنطقة، والتي ترفض التوقيع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. ومن عجائب زماننا أن واشنطن تحرص على طمأنة «تل أبيب» النووية، بخصوص مشاريع طهران وفحوى الاتفاق الموقع معها مؤخراً، وذلك بأكثر مما تحاول واشنطن طمأنة دول غير نووية ، وهي جميع الدول العربية. غير أن العالم العربي لن يطمئن إلى حاضره ومستقبله إن لم تلتزم الدول الكبرى بجعل منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل، وهذا يعني تجريد «تل أبيب» من هذه الأسلحة ومنشآتها وإلزامها بالتوقيع على معاهدة الحظر النووي، والكف عن استئثار الامتياز النووي لها رغم أنها ليست نظرياً جزءاً من النادي النووي (الذي يقتصر على الخمسة الكبار)، مع الأخذ في الاعتبار وجود منشآت نووية في دول مثل الهند وباكستان وغيرهما. ومع التذكير أن حصر النادي النووي بالدول الكبرى مقرون بتفاهم بين هؤلاء على منع الانتشار النووي في بقية دول العالم، مع السعي لتخفيض مستوى التسليح النووي بين الكبار بصورة مطّردة.
لا شيء على الإطلاق يبرر امتلاك «تل أبيب» لأسلحة نووية (وفي الأصل لا شيء يبرر من ناحية المبدأ امتلاك أي دولة كانت لأسلحة غير تقليدية ذات قوة تدميرية هائلة). فالدولة الصهيونية هي الأقوى تسلحاً في المنطقة، وبينها والولايات المتحدة تعاون عسكري مفتوح لا يحُدّه حد.
من جهة ثانية فإن الدولة الصهيونية تقوم باحتلال أراضي الغير، وتنكر على أحد شعوب المنطقة (شعب فلسطين) حقه في أرضه وفي تقرير مصيره. ويحفل تاريخ هذا الكيان باعتداءات على دول وشعوب مجاورة ، واستخدام أسلحة محرمة ( النابالم مثلا). وهي من أكثر دول العالم رفضاً لتنفيذ قرارات دولية. وعليه فإن سجلها يثير التحفظ الشديد على سلوكها العدواني والتوسعي، بغير أن تستخدم أسلحة نووية ، فكيف مع امتلاك هذه الأسلحة وإمكان استخدامها؟
إنه لمن المفهوم أن تُرخي «تل أبيب» ستاراً من التعتيم المطبق على منشآتها النووية ، وأن تتخذ من هذا التعتيم وسيلة إضافية للترويع والتهديد ، غير أنه يعِز على الفهم أن تلجأ الدول الكبرى بما فيها الصين وروسيا إلى الصمت حيال هذه المسألة ، رغم الخطاب السياسي المعلن عن منع الانتشار النووي في العالم بأسره بما فيه الشرق الأوسط ، كذلك الحال مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي باتت ، كما هو جلي ، تخضع لاعتبارات سياسية تخالف ميثاق عملها ، في تجاهل المنشآت النووية «الإسرائيلية» ، ويستذكر المرء هنا زيارة قام بها مدير الوكالة السابق محمد البرادعي ل«تل أبيب» في يوليو/ تموز 2004 ، وخرج الرجل من الزيارة بتصريحات يكاد فحواها ينمّ عن تفهم الدواعي الصهيونية لامتلاك أسلحة دمار شامل (وذلك مع إبداء تفهمه للقلق الأمني «الإسرائيلي»)، ولم يقم بأية زيارة لأية منشأة نووية هناك! وبينما تصاعد منذ ذلك الحين الاهتمام بالأنشطة الإيرانية، فقد توقف اهتمام الوكالة الدولية بمفاعل ديمونا وسواه من منشآت في الدولة الصهيونية.
إن واحدة من أكبر الألاعيب وأخطرها على المسرح الدولي قد جرى اقترافها، باحتساب «تل أبيب» عملياً جزءاً من نادي الكبار النووي ، وذلك بإعفائها من التوقيع على معاهدة حظر الانتشار، ثم إعفائها تبعاً لذلك من عمليات التفتيش ، بما يحرّرها من أي رقابة دولية في هذا المجال ، وبما يكرّس الخطر النووي في منطقتنا الملتهبة. ومن دواعي السخرية حقاً أن تتم طمأنة هذه الدولة على طبيعة مشاريع دول أخرى ، بدل أن تقوم هذه الدولة بطمأنة دول المنطقة والعالم باستعدادها للخضوع للأنظمة والاتفاقيات الدولية التي تحظر الأنشطة النووية.
إنه لمطلوب حقاً متابعة النشاطات الإيرانية في المجال النووي ، تفادياً لسباق تسلح مُدمّر ولضمان عدم الاستخدام لغير الأغراض السلمية ، وفي الوقت ذاته فإنه مطلوب بإلحاح وقف الاستثناء.. بل الشذوذ الصهيوني بامتلاك أسلحة تدميرية ، خلافاً لكل الأعراف والمواثيق ، وسوف يكون أمراً مقلقاً أشد القلق ومُستغرباً أشد الاستغراب ، أن تستنكف دول المنطقة من جانبها عن المطالبة بفتح الملف النووي الصهيوني. ولا شك أن التطورات الأخيرة على الملف الإيراني تشكل فرصة لإعادة المجاهرة بالموقف الصحيح والمبدئي والذي يستند إلى قرارات دولية بوجوب إخلاء منطقتنا من أسلحة الدمار الشامل ، إذ إن التهديد النووي غير قابل بطبيعته ، لأن يحظى أي طرف بأي استثناء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"