لماذا سقطت فنزويلا؟

01:43 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. لويس حبيقة

عندما تسقط دولة كما حصل مع فنزويلا وبسرعة، لا بد من مراجعة الأوضاع والظروف والتعلم من التجربة السلبية المكلفة. فنزويلا، الدولة الغنية التي تحتوي على شعب نشط، تصبح اليوم من أفقر دول العالم بعد أن كانت من أغناها. يبلغ عدد سكانها 30 مليوناً نصفهم ما دون ال 24 سنة، مع مساحة قدرها 912 ألف كم مربع، ومع حدود مشتركة مع البرازيل وكولومبيا وغويانا. تحتوي على مواد أولية مهمة بدءاً من النفط إلى الغاز والحديد والذهب والألماس وغيرها. دولة غنية بكل ما في الكلمة من معنى. في سنة 1950، بينما كان العالم الغربي يتعافى من نتائج الحرب العالمية الثانية، كانت فنزويلا الدولة الرابعة في الغنى عالمياً. بلغ الناتج الفردي عندها 7424دولاراً بعد الولايات المتحدة وسويسرا ونيوزيلندا. أوضاع فريدة تشير ليس فقط إلى حجم الغنى المادي، بل إلى حسن إدارة الدولة في ذلك الوقت.
تنهار الأوضاع اليوم، وها هم الفنزويليون يهاجرون، خاصة المفكرين وأصحاب الأدمغة قبل العمال العاديين. قسم من أصحاب الكفاءة والمهن يتركون أعمالهم للعمل في مناجم الذهب غير الشرعية التي تركتها الدولة منذ زمن لعدم قدرتها على الحماية، فأصبحت في أيدي الميليشيات. في هذه المناجم تنتشر الملاريا التي غابت عن فنزويلا منذ عقود. في الحقيقة كانت فنزويلا الدولة الأولى في العالم التي قضت على الملاريا في سنة 1961، وذلك تبعاً لمنظمة الصحة العالمية. تنتشر الملاريا اليوم بسرعة في المدن والقرى مصدرها السكان العائدون من هذه المناجم وانتشار الحشرات بعد انتقالها معهم. في النصف الأول من 2016، ارتفعت إصابات الملاريا 72% لتصل إلى 125 ألف حالة، والرقم سيزداد حتماً في غياب الأدوية وأجهزة الوقاية. الملاريا موجودة في أكثر من نصف الولايات الفنزويلية البالغة 23، وكان لصحيفة «النيويورك تايمز» تقرير حديث مفصل حول هذا الموضوع.
تبعا للإحصائيات المتوافرة، انخفض الناتج المحلي الإجمالي 3.9% سنة 2014، و5.7% سنة 2015، ومن المتوقع أن يستمر السقوط هذه السنة 8%، و4.5% السنة القادمة. ميزان الحساب الجاري عاجز في حدود 7.5% من الناتج السنة الماضية، و6.6% هذه السنة. الموازنة عاجزة بنسب كبيرة أي 15.4% من ناتج السنة الماضية ، و23.4% هذه السنة. باستثناء البرازيل التي تعاني مشاكل سياسية عميقة وفنزويلا، كل دول أمريكا اللاتينية نمت السنة الماضية. منذ تولي «هوغو شافيز» الرئاسة حتى موته أي فترة 1999 2013، تنحدر الأوضاع الاقتصادية في الدولة لأسباب مرتبطة بالسياسة والإدارة والاقتصاد. عندما تسلم الحكم أمّم شركتي الاتصالات والكهرباء، فانهارت الفعالية وارتفعت التكلفة كما الفوضى والفساد. تحول قطاع النفط معه إلى قطاع يوظف دون جدوى، فارتفع عدد العمالة 3 أضعاف كما انخفض الإنتاج. أكمل «نيكولاس مادورو» الطريق، وها هي فنزويلا تعاني أسوأ أزمة في تاريخها.
أولاً: بنيت السياسة الاجتماعية على توظيف الإيرادات النفطية لتمويل الحاجات الاجتماعية ودعم السلع الأساسية وضرب الفقر. لم يكن هنالك أي تفكير أو رؤية بشأن التنويع الاقتصادي لتخفيف مخاطر الاتكال على النفط. انخفض عدد الفقراء من 50% في سنة 1999 إلى 27% في سنة 2011 وعاش الشعب في بحبوحة مقبولة. وعندما انخفض سعر برميل النفط كما حصل، لم يعد بالإمكان الاستمرار بتمويل حاجات الشعب وبالتالي وقعت الأزمة الاجتماعية المستمرة. كانت الالتزامات الاجتماعية محقة وإنسانية، لكنها لم تكن مدروسة مالياً وبالتالي صعب جداً الاستمرار فيها قبل إيجاد بدائل. ارتفعت حصة النفط من الصادرات من 70% في سنة 1998 إلى 98% في سنة 2013، ما يشير إلى التأثير الخطير لسعر البرميل في الأوضاع الاجتماعية. نضيف إليه حصول جفاف قاسٍ ضرب الإنتاج الزراعي، وبالتالي لم يعد موجوداً، علماً أن الاستيراد أصبح مكلفاً مع سقوط النقد. أوضاع اقتصادية صعبة إضافة إلى جوع ضرب الطبقات الوسطى والفقيرة.
ثانيا: عندما بدأت أسعار النفط بالانخفاض، وبالتالي تدنت الإيرادات، لجأت الدولة إلى التمويل النقدي، عبر زيادة حجم الكتلة النقدية والاقتراض. أبسط الملمين بالعلوم الاقتصادية يعرفون جيداً أن هذا يؤدي إلى التضخم وإلى انهيار النقد وهذا ما حصل فعلاً وبسرعة.
ثالثاً: لم تكن إدارة الدولة مسؤولة وجدية، إذ إن النظام الكوبي الذي حاول شافيز نسخه مختلف جداً. يختلف أولاً بعدم وجود شخصية مثل كاسترو تجذب الشعوب وتقنعها عن حق أو باطل بالتقشف والالتزام بمبادئ «الثورة». قيادة الدولة مهمة جداً في الظروف الصعبة وهذا ما فشل به شافيز وتبعه فيه مادورو. إضافة إلى سوء الإدارة الداخلية، ساءت العلاقات مع دول الجوار والولايات المتحدة والمؤسسات الدولية، أي لم يعد ممكناً إيجاد من يمكن أن يساعد فنزويلا مادياً ومعنوياً وإنسانياً في ظروفها السيئة.
رابعاً: تجمعت كل المصائب في وقت واحد... أي أزمة سياسية حادة مع الجوار، وأزمة إدارة اقتصادية واجتماعية للدولة، وانهيار الأمن وزيادة المخاطر الشخصية وانهيار الأمن العام، إضافة إلى عدم توافر المحروقات في بلد يصدره. ارتفع الإجرام القاتل إلى 200 جريمة لكل 10 آلاف شخص وهي من الأعلى في العالم.
ما هي الحلول لإنقاذ الدولة والشعب؟ وهل يمكن لفنزويلا أن تستفيد من التجارب السابقة السلبية التي ضربت مثلاً المكسيك ودول شرق آسيا وروسيا والبرازيل والأرجنتين وغيرها؟
أولاً: وقف التمويل عبر النقد، أي ضبط الكتلة النقدية للسيطرة على التضخم ووقف انهيار النقد أكثر. هذا ليس صعباً، لكنه يجب أن يترافق مع تخفيض الإنفاق وإيجاد مصادر تمويل أخرى، ربما عبر المساعدات الخارجية.
ثانياً: تخفيض الدعم حتى للسلع الأساسية، لأنه لا قدرة للدولة على الاستمرار في الانفلاش المالي. السكان سيتضايقون لأن أوضاعهم سيئة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"