لمن أسلم قيادي؟

04:11 صباحا
قراءة 3 دقائق
جميل مطر

في عالم شديد التقلب والاضطراب تتعقد المسارات، مسارات الأفراد والدول على حد سواء، أنا غير واثق تماماً من أن الأغلبية العظمى من شباب هذه الأيام مطمئنون بدرجة كافية إلى الخيارات التي استقروا عليها لمستقبلهم. بل وأشك شكوكاً لها ما يبررها على أرض الواقع في أن الأغلبية العظمى من قادة الدول والمعارضين لهم مرتاحون لما يفعلون، إلا نفراً قليلاً غير مدرك ذهنياً أو صحياً نتائج ما فعل ويفعل. كثيرون، ويزدادون، من صانعي القرارات على مستويات شتى، أصبحوا بالفعل عاجزين عن إصلاح ما فسد على أيديهم فوق ما فسد على أيدي السابقين.
سمعت سياسياً لبنانياً يعترف بمسؤوليته عما آلت إليه الأحوال وصار عليه الوضع في بلد كان إلى عهد قريب الحضن الدافئ لجيل بعد جيل من شباب العرب ومفكريه وقادة الرأي فيه. يقول إنه يتحمل نصيباً من المسؤولية لأنه انضم بمطلق إرادته إلى حكومة كان يعلم أنها لن تحل معضلة ولن تخطو خطوة واحدة نحو تقدم أو ما شابه التقدم. دخل وهو يعلم أنه لن يسهم في أي تغيير إيجابي، يعتقد أيضاً أنه في كل الظروف لا هو ولا جماعته ولا حلفاؤه في الداخل وامتداداتها في الخارج كانوا قادرين على رؤية الأبنية تتصدع من حولهم، غاب عنهم، وهو واحد منهم، أن يسألوا لمن سنسلم قيادنا نحن اللبنانيون. لمن في الخارج ولمن ينوب عنه في الداخل. «لم نسأل وقتها حتى فاجأتنا الجماهير من ساحاتها وشوارعها بالسؤال نفسه، ولم نجد حتى الآن جواباً».
كنت مقتنعاً على امتداد سنوات ما بعد انفراط نظام القطبين أن واشنطن سوف تتخبط في سياسات وقرارات متناقضة أو غير ناضجة إلى أن يأتي وقت تستقر فيه الأمور على وضع جديد يتناسب وواقع القوة هناك عند القمة.
تخبطت واشنطن وكان دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ثمرة هذا التخبط وتعميقاً له وتوسيعاً في آن واحد، ولا يزال الوضع هناك عند القمة غير مستقر تماماً. يكفي أن نكرر ما يقال إنه يتردد في دهاليز بيت الشعب في بكين.. يتردد أن الصين راضية، ولا أقول مكتفية، بما وصل إليه الحال عند القمة. «الصين راضية بأن تكون القطب الثاني في نظام قمة دولية لا قوة أخرى تحتل فيه مقعد القطب الأول». أستطيع بجهد غير قليل أن أتفهم المنطق الذي تستند إليه هذه العبارة. هذه العبارة مثل غيرها من الألغاز الصينية، تعد لغزاً يلخص هدفاً ويرسم طريقاً. سمعت من يردد أن شخصية ترامب وتركيبته النفسية ورؤيته لنفسه رئيساً مختلفاً لأمريكا هي واحدة من أهم أزمات السياسة الخارجية للولايات المتحدة. اهتم جداً بهذا الرأي الذي يقال إنه يتردد في بعض دوائر البحوث ومراكز العصف الفكري. أهتم به لأنه يفسر بعض الشيء أوضاع انحدار تحالفات أمريكا الخارجية، وبخاصة في آسيا والشرق الأوسط وأوروبا.
يبقى السؤال اللاحق بالضرورة متعلقاً باستمرار ترامب لولاية ثانية، بمعنى آخر استمرار وضع الأزمة في منظومة السياسة الخارجية الأمريكية وبالتالي أزمة النظام الدولي في حالته العرجاء الراهنة.
أشفق، ولا يجب أن أشفق، على حال أغلبية نساء ورجال امتهنوا السياسة في دول العالم النامي. أقول أغلبية ولا أقول «كلهن كما في العامية اللبنانية» لنقص في المعلومات. هؤلاء بالفعل وليس فقط بالقول يمرون بمحنة لها وجهان. وجه يعلن بوضوح، سلمي في حالات قليلة ودموي في حالات أكثر، وبصراحة أن الشعوب «زهقت من كثرة المطالبات وندرة الاستجابات وكلفة الإنجازات إن وقعت».
علمتنا الشعوب ونحن صغار أنها إذا زهقت صرخت، وإذا لم يستجب السياسيون انحنوا ليلتقطوا أحجاراً يرمونها من بعيد لتصيب رموز السلطة، فإذا استمر غياب الاستجابات وامتنعت الإنجازات ستفكر الشعوب في تصرف آخر لأنها عندئذ تكون قد فقدت آخر قطرة من ثقة كانت تغذي علاقتها بالسياسة والحكم.
أعرف أشخاصاً في السلطة في أكثر من دولة في الشرق الأوسط اجتمعوا على معنى واحد متضمن في السؤال التالي: وماذا يمكن أن نفعل ونحن جميعاً، في العالم العربي مثلاً، عاجزون عن اختيار الدولة الكبرى في الإقليم أو في العالم الخارجي، أو اختيار حلف إقليمي أو دولي، حتى نسلمها أو نسلمه مقاليد قيادتنا. إنها لحقيقة لا تخفي أن أزماتنا الداخلية بما فيها المتسببة عن عجز الاستجابة لمطالب شعوبنا والتهديدات لأمننا الخارجي تتحدى جميعها قدراتنا الذاتية.
أستطيع أن أفهم وأشفق قليلاً. من منا يستطيع اليوم أن ينبئ الجميع، مفكرين وسياسيين وإعلاميين، عن مستقبل السياسة الأمريكية تجاه دولنا ومصالحنا خلال فترة الولاية الثانية لرئيس أمريكي، لا أحد في هذا العالم يثق في اتزان أو رشادة تصرفاته حتى تجاه أقرب حلفاء أمريكا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"