مات محمد علي.. عاشت العنصرية في أمريكا

03:17 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

جسّد الملاكم الأسطورة محمد علي تلك الصلة المتينة ما بين الرياضة والسياسة، فجعل الأولى في خدمة الثانية. توفي في فونيكس، في أريزونا، عن 74 عاماً، قضى اثنين وثلاثيناً منها في صراع مع مرض الباركينسون الذي انتهى بالتغلب عليه بالضربة القاضية. لكن كفاحه الأصعب، منذ ستينات القرن المنصرم، كان في مواجهة التمييز العنصري في الولايات المتحدة ضد الأفارقة - الأمريكيين الذي كان محمياً بقوانين وتقاليد ومعتقدات وأفكار مسبقة. في الثانية والعشرين من عمره فاز «كاسيوس كلاي» ببطولة العالم في الملاكمة، وقرر اعتناق الدين الإسلامي والتخلي عن الاسم الذي ورثه من عهود العبودية واتخاذ اسم محمد علي في تأكيد على انتمائه، الديني والسياسي، ل «أمة الإسلام» التي كان يتزعمها في ذلك الوقت علي نينجا.
وفي عام 1967، وفي عز صعوده كبطل عالمي في الملاكمة، رفض الالتحاق بحرب فيتنام، لأسباب قال إنها تتعلق بدينه وضميره، وقناعاته ضد الإمبريالية، معلناً أن «الفيتكونغ» ليسوا أعداءه، وأن لا أحد منهم عامله كعبد، كما فعل الكثير من الأمريكيين البيض. هذا الكلام الذي كان من المحرمات وقتها، جلب لمحمد علي الكثير من الانتقادات والاضطهاد، قبل أن تكرسه مواقفه المتكرره في هذا المجال ناشطاً سياسياً عالمياً في مجال حقوق الإنسان، ومكافحة التمييز العنصري.
تخطت شهرته كملاكم ومناضل الحدود الأمريكية لتصل إلى العالم أجمع. ولم يعد مجرد مدافع عن حقوق السود الأمريكيين، بل أضحى حاملاً لشعلة حقوق الإنسان الفقير والمظلوم، بمعزل عن انتمائه وهويته، أو أصوله. ومع الوقت، ورغم راديكاليته المتجذرة، ومواقفه المتشدده وعدائه للإمبريالية والهيمنة الغربية أضحى مصدر فخر لبلاده التي تكرمه اليوم كبطل من أبطالها، وتذكّر بأنه مثّل في ذاته هذه الروح التعددية الأمريكية. ألم يصرخ يوماً «أنا أمريكا»؟ وهي صرخة انضمت إلى أخرى مثل «أنا البطل».. «أنا الأعظم».. التي لم تكن انعكاساً لغرور أو اعتداد مفرط بالنفس، بقدر ما كانت تعبيراً عن رفض النظام القائم الذي يضطهد السود، وينظر إليهم بدونية واحتقار.
حظي محمد علي، بعد وفاته، بالكثير من التكريم والتبجيل في أمريكا والعالم. كتبت عنه كل الصحف ووسائل الإعلام بأكثر الطرق والأساليب تعاطفاً مع مسيرته واعجاباً بها. لكن المفارقة أن هذا التكريم يأتي على خلفية تصاعد متزايد للعنصرية، ولكل ما ناضل ضده الرجل، في وقت يكاد يصل فيه المرشح العنصري المتطرف دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. والمضحك المبكي أن هذا الأخير امتدح محمد علي وقال فيه كلاماً فيه الكثير من التكريم والتعظيم.
الرئيس أوباما حيا مسيرة محمد علي، ووصفه بأنه «الرجل الذي هز العالم، وناضل من أجل العدالة، إنه بكل بساطة «الأعظم»». نقطة على السطر، لكن من سخرية التاريخ أن الرئيس الأسود الأول في تاريخ الولايات المتحدة يمضي من دون أي تقدم يذكر في مسألة العنصرية واضطهاد الملونين، رغم كل ما تحقق على مستوى القوانين والتشريعات منذ ستينات القرن المنصرم بفعل نضالات رجال، مثل مارتن لوثر كينغ، ومالكوم اكس، ومحمد علي وغيرهم.

ويبدو أنه لا يزال أمام العنصرية أيام طويلة في الولايات المتحدة بعد ستين عاماً على الحادثة الشهيرة التي أطلقت حركات احتجاجية عارمة من قبل السود الأمريكيين. وقتها في الأول من ديسمبر/كانون الأول 1955 رفضت روزا باركز، وهي سيدة سوداء، أن تخلي مقعدها في الحافلة العامة لرجل أبيض، فاعتقلتها الشرطة.

وفي سياق حملتها الانتخابية، ذهبت هيلاري كلينتون، بصحبة بريس كينغ ابنة مارتن لوثر كينغ، إلى كنيسة باتيست دكستر في ألاباما التي انطلقت منها، في التاريخ المذكور، قرارات التظاهر ومقاطعة حافلات النقل المشترك لتعلن: «بالنسبة للكثير من الأمريكيين، خاصة الأفرو-أمريكيين فإن النظام الجزائي ليس ما ينبغي أن يكون عليه.. رغم القوانين الكبرى للحقوق المدنية التي صدرت في ستينات القرن المنصرم فإن الأمريكيين السود ما زالوا يعانون بطريقة فيها تمييز عنصري من قبل العدالة والشرطة وبعض القوانين تحديداً في ولايات الجنوب» الشهيرة بعنصريتها.
لقد اتخذ الرئيس أوباما إجراءات كثيرة لوضع حد للحوادث المتكررة بين رجال الشرطة والمواطنين السود. لكن يبدو أن العنصرية أعمق جذوراً في أعماق «الواسب» (البيض الأمريكيين البروتستانت) من أن تُقتَلع. وفي حركة فريدة غير مسبوقة لرئيس أمريكي ذهب أوباما لزيارة أحد سجون أوكلاهوما، حيث ندد باكتظاظه غير الإنساني، وذكّر بأنه من أصل ٢.٢ مليون سجين في الولايات المتحدة (ما يعادل ربع عدد السجناء في العالم تقريباً) 60% هم من السود. وهكذا يمكن القول إن اوباما لم ينجح البتة في هذا الملف، لسببين أولهما أن الكونغرس الجمهوري كان يقف له دوماً بالمرصاد، وثانيهما لأنه لم يشأ أن يبدو رئيساً للسود، بل للأمريكيين كلهم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"