ماضينا يلاحقنا

04:55 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

في عام واحد رأينا الماضي يبعث حياً في مواقع عدة من العالم. كنا حتى عهد قريب، وأقصد تحديداً السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، نزهو أمام أولادنا بعولمة حققناها سوف تنقلنا حتماً إلى أزمنة في المستقبل تختلف جذرياً، وكلياً، عن زمن نعيشه، وأزمنة عاشها الآباء، والأجداد. لم ندرك وقتها لحسن نيّاتنا، وانبهارنا بما يبيّته العلم لنا وللتكنولوجيا، وبالطاقة الفريدة التي حركت ملايين البشر لينتقلوا من قارات إلى قارات أخرى، وأخرجت إلينا الصين الجديدة ومعها وعد أن تصير قوة عظمى في سنوات معدودة، وبالفعل صارت، لم ندرك وقتها أن هذه العولمة تأتي وفي ركابها أمواج عاتية تحمل أزمنة، كان الظن- كما قلت- إنها خلت وراحت، ولن تعود. رأيناها في منطقتنا، وأقصد الأمواج، كاسحة. رأيناها تمحو أمام أعيننا عقوداً من الثقة بالنفس، والمستقبل. رأيناها تخرب المؤسسات العلمية ومناهج التعليم، وتغلق مراكز البحث، أو تقصر أنشطتها على اللغو الفارغ، وتمجيد غزوات الأولين.
رأينا ما هو أخطر وأقسى على النفوس الحالمة. غير معقول ولا مقبول أن تعود أغلب شعوبنا لتنغمس في حروبها الأهلية، وتنشغل بفساد حكامها، وانفراط وحدتها. ليس مقبولاً أن تتخلى هذه الشعوب وجمعياتها العلمية وجامعاتها ومؤسساتها عن طرق سلكت فيها مسافات طيبة نحو أزمنة المستقبل، لتعود فتسلك طرقاً التفافية، وبالية، أو تمشي في الاتجاه المعاكس، اتجاه أزمنة غابرة، ومسالك مظلمة. الاستثناءات قليلة، وغير فاعلة، أو قادرة على وقف هذا النزوع الخبيث. أكتئب وأنا أرى ما يفعله بلبنان هذه الأيام، بل وكل الأيام، قادة طوائفه. هم أنفسهم قادة طوائف ومشاريع تجارة ونفوذ، وفي الوقت نفسه قباطنة حكم في قارب يوشك على الغرق. أكتئب أكثر لما يحدث في اليمن والعراق وليبيا، وما قد يحدث في الجزائر وتونس والمغرب إن حل التعب بشعوبها.
واضح لنا الآن أن الماضي يبعث حياً في كثير من بقاع العالم. نرى أوروبيين في حال فزع من احتمال عودة الفاشيات في ثياب جديدة، ومن خلال صناديق الانتخاب، كما سبق وفعلت. نرى بريطانيين عقلاء في حال فزع. يخشون أن سياسيين جدداً بخبرة منعدمة قد يتسببون بإعادة التقتيل والدمار إلى شوارع إيرلندا الشمالية، إن أصروا على الخروج من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق. لا أظن أن بين أعضاء مجلس العموم من يستطيع أن يزعم أنه شهد في حياته السياسية عهداً، أو سمع عن عهد اهتزت فيه صورة الديمقراطية في بريطانيا إلى هذا الحد.
وبعيداً وفي شرق آسيا تحديداً، ينطبق المثل المصري الشائع «الحال من بعضه». واقع الأمر هناك أن «الماضي اللئيم»، رغم كل التطورات التي وقعت هناك على امتداد ثلاثة أرباع قرن، لم يحمل عصاه ويرحل. اكتشفنا، على العكس، أنه بكامل نشاطه، وعنفوانه، عندما يستدعى. رأيت، في أوائل سنوات حكم الثورة الماوية كيف كانت تفاصيل سنوات الصدامات الدموية، وعذابات الشعب أثناء حكم اليابان لمنشوريا، وحرب التحرير تذاع على الناس، ونحن بينهم، في محطات القطارات وعلى طول رحلاتها، ومع النشيد الوطني كل صباح في المدارس، ومع استراحة شرب الشاي بين نوبات العمل في المصانع.
حدث أيضاً ويحدث بين الشعب الكوري في شمال كوريا الشيوعي، وجنوبها الرأسمالي من ناحية، وشعب اليابان وحكوماته من ناحية أخرى. مرت سنوات عدة ولم ينس الكوريون قسوة الجيش الياباني أثناء احتلاله شبه جزيرة كوريا قبل، وخلال الحرب العالمية. حصلوا على الاعتذار الواجب، ولم ينسوا. الآن يذكرونه ومعه حقوق آلاف الكوريات والكوريين الذين سخّرهم اليابانيون للعمل في المصانع والمزارع اليابانية.
أثار اهتمامنا الجهود الروسية الساعية لإنشاء جماعة دفاعية وتسليحية إلى جانب جماعات أخرى اقتصادية وسياسية وتعاونية لدول شرق آسيا. هذه التسميات هي فقط للتعمية على عنوان آخر لمجموعة هذه الجماعات، وأول ما يخطر على الذهن عنواناً لهذه المجموعة العنوان التالي: «حلف آسيا والباسيفيكي» رداً على الحلف الأمريكي بعنوان حلف الاندو باسيفيكي الجاري تنظيمه الآن. والروس وهم يتأهبون لقيادة هذا الحلف، لن ينسوا هزيمتهم في مطلع القرن الماضي على أيدي اليابانيين، ولن ينسى اليابانيون أرضاً عزيزة عليهم اقتطعها الروس بعد الحرب العالمية الثانية، والصينيون معبأون بروح الانتقام من اليابانيين، وكذلك الكوريون.
كثيرون استفادوا من النزاعات الدولية ذوات هذا النوع من الماضي غير البسيط. تردد في الأنباء أن الرئيس ترامب اعتذر عن عدم التوسط في النزاعات بين العرب بحجة أن لا وقت لديه. لم يقل الحقيقة، الحقيقة أنه مستفيد، ولا أبالغ إن أضفت أنه ربما كلف مساعديه بالعمل على تعميق الخلافات، والبحث في الماضي عن أسباب لهذه النزاعات أكثر، وأعمق. لا نية سيئة أو مؤامرة، هي السياسة ومصالحها، لا أكثر، ولا أقل. ألم ندرك بعد الفائدة العظيمة التي عادت على حكام «إسرائيل» من حسن استغلال وتعميق جذور الصراع بين اليهود والعرب، وبينهم وبين شعوب أوروبا، وبينهم وبين أمم الأمم المتحدة؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"