مجتمعات بلا أهداف

03:35 صباحا
قراءة 3 دقائق
حافظ البرغوثي

كشفت ثورات ما يسمى «الربيع العربي» عن هشاشة المجتمعات العربية وعوراتها، لأنها بنيت على عجل وبفعل فاعل غير عربي، أي التقسيم الاستعماري الذي ينبذ التماسك الاجتماعي مع كل مكونات المجتمع لصالح الإبقاء على القبلية الضيقة أو المناطقية الجغرافية المفتتة التي ليس لها طموحات حضارية تطويرية من أجل حجب التطور الاجتماعي المدني وإبقاء التأثير الاستعماري غير المباشر. فلم يكن أحد يتصور في أسوأ الكوابيس أن يشهد بعض الأقطار العربية كل هذه الوحشية والهمجية بين أبناء المجتمع الواحد.
بالطبع مناقشة هذا الأمر تستحق مطولات من البحث والحوار لكن ما لفت نظري بقوة أحداث هامشية كشفت عن أن المجتمعات العربية عامة غير محصنة داخلياً ليس في مواجهة التأثيرات الأجنبية فقط بل بسبب ظواهر عنصرية مقيتة كنا نظنها تلاشت منذ زمن بعيد. فبعد اختيار المتسابقة خديجة بن حمو وهي من الجنوب الجزائري ملكة جمال لبلادها هوجمت شر هجوم لكونها سمراء أولاً وتقطن الجنوب ثانياً، وليست بيضاء شقراء، وكأن الجمال حكر عل لون ولا يصل إلى الجنوب مع أن هناك ملكات جمال للعالم من بلاد سمراء وسوداء وصفراء.
كلنا نعلم أن أجمل النساء من نجمات الغناء والسينما وحتى في مسابقات الجمال خضعن لسلسلة من عمليات التجميل لإزالة القبح وربما بينهن من هاجمنها بضراوة، بينما خديجة غير الثرية لم تخضع لأية عملية من هذا القبيل. وقد كشفت الهجمة المسعورة على الملكة الجزائرية توطن العنصرية لدى البعض مع أن الإسلام حرم التمييز اللوني.
الخبر الآخر الذي أثار الانتباه هو خبر احتضان طالبة لزميل لها في جامعة الأزهر فرع المنصورة بعد أن قدم لها وردة طالباً يدها وسط تصفيق زملاء لهما خارج الجامعة، فما هو الجرم في خطبة علنية كهذه، وهل ذلك يستوجب العقاب مثلاً؟. عملياً ليس هناك فضيحة ولا إخلال بالحياء العام في مثل هذا السلوك لأنهما أشهرا خطبتهما في زفة من الزملاء فأين الخلل؟
ثم هناك قضية أخرى تتكرر، وكأننا نوجه ديننا ليكون ذكورياً يبخس المرأة حقوقها ويستعبدها دون وجه حق. فقد قررت السلطة الفلسطينية مؤخراً تسوية الأراضي في الضفة الغربية لتسجيلها مجدداً، وتبين أن أغلبية النساء الفلسطينيات لم يتمتعن بحق الميراث منذ قرون طويلة في مخالفة صريحة لفريضة ربانية حيث قال سبحانه وتعالى في سورة النساء «لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا»، فإذا كان ميراث المرأة فرضاً في القرآن الكريم فكيف تحرم من حقها على مدى عقود أو قرون، وترضخ لسطوة الذكر وتتنازل إما كرهاً أو طوعاً لجهلها بالقيم الدينية عن حقوقها الشرعية. وهذا يشير إلى استلاب أبسط حقوقها في الدنيا فما بالك بالحقوق الأخرى التي أباحها لها الشرع وحرمها منها الذكر، لأنه تعمد تحريف الدين لمصلحته. فكيف يستقيم أن تسمع إماماً يخطب الجمعة داعياً إلى منح المرأة حقوقها وتجده في اليوم التالي وقد أكل حصة أخواته في الميراث!
في رأي ابن خلدون، إن الظواهر الاجتماعية مرتبطة ببعضها، وإن القوانين جاءت لتنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع، وقسم المجتمعات إلى نوعين هما، البناء البدوي الذي يحب العزلة ويركز على توفير الضروريات المعيشية، والمجتمع العمراني الحضري الذي تختفي فيه العصبية القبلية التي ميزت المجتمع البدوي. وهنا يعتمد الحكم على ولاء عصبيات قبلية متعددة لتوطيد حكمه وأجناس أخرى مع تحديد وجهة أي هدف للجميع. ولأن الحضارة في نظره تعتمد الأشياء، أي المادة فإنها تصل إلى الترف وزيادة النفقات ما يزيد أعباء الدولة ويختفي الهدف أو الوجهة ويمهد لتلاشي الدولة.
لكن ما يشهده المجتمع العربي هو أن المجتمع العمراني الحضري الذي يسمى حالياً بالمجتمع المدني انتقلت إليه ظواهر العصبية القبلية بطريقة أو بأخرى، وهذه أكبر عقبة أمام التطور المدني عربياً. فالعقد الاجتماعي هو أن القانون والنظام السياسي ليسا طبيعيين، بل هما من اختراع البشر ويعمل العقد الاجتماعي والنظام السياسي الذي ينشأ عنهما كوسيلة للوصول إلى غاية، وهي منفعة الأفراد الذين يشملهم العقد الاجتماعي، ويكون العقد الاجتماعي شرعياً فقط ما دام الأفراد يؤدون ما اتفقوا عليه.
لكن في المجتمعات العربية الحديثة التي اكتسبت شكل دول بتقسيمات سكانية وجغرافية أجنبية منذ سايكس- بيكو، نرى أن الممارسة أنتجت تنازلات قسرية من المجتمع لصالح الحكم ما يفقد العقد الاجتماعي مبرر وجوده. واستخدم الدين تارة لتوطيد الحكم وتارة لخلعه من دون أدنى فوائد للمجتمع ذاته. ولنا كما أسلفنا في ثورات ما سمي «الربيع العربي» الموجّه خارجياً أسوأ مثال أمامنا على شكل قتل وتنكيل وتهجير وهدم للعمران، لأن كثيراً من أنظمة الحكم لا يهمها فائدة الأفراد بل مصلحة أدوات الحكم فقط.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"