محاولة اختصار قضية فلسطين بغزة

03:37 صباحا
قراءة 3 دقائق
إلياس سحّاب

يسود منذ مدة في جنوبي الأرض الفلسطينية المحتلة مشهد غريب ومعقد، إلى درجة أن بعض القوى الدولية تعتقد أن باستطاعتها بتصرفات بسيطة جزئية الخلاص من «وجع الرأس» المزمن الذي تمثله قضية فلسطين منذ العام 1948.
وللوهلة الأولى، تبدو هذه القوى محقة في تهيؤاتها وتصوراتها. فالذي ينظر إلى الخريطة الشاملة للأرض الفلسطينية المحتلة، يتهيأ إليه أن المشهد العام في هذه الأرض قد دخل مرحلة من الهدوء، بحيث لم تبقَ من بؤر مشتعلة على هذه الأرض سوى بؤرة غزة.
ومن المؤكد أن السبب الأول في اعتماد هذا التحليل الكاذب والخاطئ لقضية فلسطين هو أن بؤرة غزة، قد أصبحت منذ سنوات، البؤرة الفلسطينية الوحيدة التي ما زالت تعتمد أسلوب المقاومة المسلحة، بحيث انحصرت القضية كلها في نظر هذه القوى الدولية هناك، وبالتالي فإن الخلاص هو في السيطرة المتدرجة على هذه البؤرة من المقاومة المسلحة، إلى حد تصفيتها تصفية نهائية، والخلاص بذلك نهائياً، من «وجع الرأس» الذي تمثله قضية فلسطين.
ولهذا الغرض، مهدت هذه القوى، بما فيها قوة الاحتلال «الإسرائيلي»، إلى محاصرة قطاع غزة حصاراً خانقاً، لسنوات طويلة، فمنعت تمتع القطاع بالحصول على ميناء بحري خاص به، ومطار جوي خاص به. ثم وسعت مفعول الحصار ليشمل كل أساليب الحياة، في هذا القطاع الذي يضم ما يزيد على المليوني فلسطيني، بما في ذلك المواد الغذائية ومواد البناء والكهرباء ومصادر الدواء والاستشفاء. بحيث أوجدت حالاً أصبح معها يبدو كأن القضية الرئيسية للفلسطينيين من سكان قطاع غزة، لم تعد قضية فلسطين المحتلة، بل قضية الحصول على فرص الحياة الإنسانية الطبيعية ولو كلف الأمر التنازل عن أي شيء آخر، ابتداء بقضية الوطن المحتل والسليب.
ولمضاعفة فرص الضغط هذه، ابتكرت القوى الدولية المحاصرة، قضية تصفية الوجود الذي يثبت أن غزة تضم أعداداً هائلة من اللاجئين الذين تسببت بلجوئهم ويلات القضية الأصلية: قضية فلسطين. فبدأت محاولات التضييق المتدرج على ميزانية وكالة الغوث الدولية، كتمهيد واضح لتصفيتها تصفية نهائية، بوقف كل نشاطاتها الإنسانية، عن طريق الإفلاس المتعمد في موازنتها المالية.
فإذا أضفنا إلى كل هذه المحاولات، المحاولة الأم، التي تطرح معادلة: فرص الحياة الإنسانية لسكان قطاع غزة في مقابل التخلي المتدرج عن استعمال السلاح، بما فيه سلاح الطائرات الورقية الحارقة، ومسيرات العودة الدائمة المتجهة إلى الحدود الفاصلة بين قطاع غزة، وبقية أرجاء فلسطين المحتلة، في مقابل هدنة طويلة يلتزم بها سكان قطاع غزة، بالتخلي طويل المدى عن استخدام السلاح، تمهيداً لخلق ظروف يتم فيها التخلص النهائي من هذا السلاح.
هذه هي خلاصة المحاولات الجارية حالياً في قطاع غزة وحوله، في تهيؤ إلى أن يمثل هذا النجاح في السيطرة على البؤرة الأكثر اشتعالاً في بؤر فلسطين المحتلة، الباب إلى التصفية النهائية المتدرجة لهذه البؤرة. فإذا تمت هذه السيطرة، يكتمل المشهد الدرامي الذي أقره مجلس «الكنيست الإسرائيلي»، باعتماد «قانون القومية» الذي يعتبر أن كل ما هو موجود في الأراضي الفلسطينية التي احتلت على مرحلتين: في العام 1948، ثم في العام 1967، هو وطن «للقومية اليهودية» وحدها، وهكذا تكتمل في مخيلة مخططي هذا البرنامج ورعاته الدوليين كل أسباب النجاح في التصفية النهائية والشاملة لقضية فلسطين، عن طريق الإلغاء النهائي لكامل الحقوق السياسية لشعب فلسطين، الذي تجاوز تعداده في شتى أرجاء العالم الملايين العشرة.
هذه هي الخلاصة السياسية للمشهد الدرامي المحيط بقطاع غزة، والذي يحاول أولاً اختصار قضية فلسطين الكبرى، بالمشاكل الإنسانية الناجمة عن حصار سكان قطاع غزة. ثم تصفية القضية عن طريق حل كاذب للمشكلات الإنسانية للقطاع، التي هي مشكلات مصطنعة أصلاً.
إنه مخطط سياسي يتناسى عمداً القوى التاريخية الهائلة الكامنة وراء وجود ملايين الفلسطينيين في شتى أرجاء العالم، وتمسكهم الكامل بحقوقهم في الاستقلال السياسي لهم جميعاً، ولأرض وطنهم.
هذه هي القضية الأصلية، وما مشكلة قطاع غزة الملتهبة حالياً، إلا مظهر عابر في هذه القضية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"