مرة أخرى مصر شمس لا تغيب

04:19 صباحا
قراءة 5 دقائق

ليست دوافعي صادرة عن شوفينية أحادية أو تعصب وطني أحمق، إنما تصدر عن استقراء موضوعي للتاريخ وفهم عميق للواقع وتطلع شديد نحو المستقبل، إنها مصر التي انطلقت منها شمس التوحيد وذكرتها الكتب المقدسة للديانات السماوية الثلاث، إنها مصر التي تكسّرت على نصالها أطماع الغزاة وأوهام البغاة وأحلام الطغاة، إنني أقول ذلك وأنا أرى حولي محاولات يائسة لخنق الروح المصرية وطمس هوية الكنانة مع الحديث المتكرر عن تراجع دورها والإيحاء الدائم بتردي مكانتها، بينما قراءة تاريخ الأمم وتطور الشعوب يوحي دائماً بموجات صعود وهبوط، ولكن الأدوار لا تختفي والشمس لا تغيب، لقد كانت أدوات الدور المصري هي التعليم والثقافة والتنوير مدعومة بالتاريخ الناصع لبطولات الجيش المصري، والآن قد تتغير أدوات الدور أو بعضها، ولكن تبقي مصر أبداً شامخةً تقدم النموذج لغيرها في المنطقة وتدفع بأدوات حديثة لدورها الحيوي المتجدد، وأنا أؤكد هنا، في ظل المناخ العام المشبع بالإحباط والبيئة التي تنضح بالقلق والاحتقان والتوتر، أنني لن أملّ من الحديث عن قضية الدور المصري الإقليمي بمعناه الحقيقي وليس بمرجعية تاريخية تشير إلى حقبة بذاتها، وسوف أطرح عدداً من المحاور لاستكمال هذا التصور:

* أولاً، إن الدور الإقليمي لمصر لا يعنى الدخول في مغامرات أو إقحام الدولة عسكرياً وسياسياً في مشكلات لا تخصها، حتى ولو كان ذلك بدواعي التطرف القومي أو الاستغراق في مسؤوليات إقليمية علي حساب المصلحة الوطنية، أقول ذلك لأن البعض يتصور أن قضية الدور المصري تعني تلقائياً فتوحات محمد علي أو حروب عبد الناصر، فالمرجعية التاريخية في الذهن المصري تشير دائماً عند الحديث عن مسألة الدور الإقليمي إلى الخروج الحتمي إلى ما وراء الحدود، والتورط في مشكلات تستنزف الاقتصاد المصري وقد تنال من الأمن الوطني ذاته، ويدافع المتحفظون على قضية الدور دائماً بأن الأمر قد يجرنا إلى مواقف وسياسات لا تخدم بالضرورة البناء الداخلي أو تدعيم قوة الدولة اقتصادياً وعسكرياً، ونحن نتفق معهم إذا كان الدور المصري يؤدي إلى ذلك، أما إذا كنا نقصد به الوجود السياسي القوي والدبلوماسي الفاعل على الساحة الدولية، فإن الأمر يختلف، لأن مصر ليست بلداً صغيراً أو هامشياً، إنها دولة مركزية محورية مطالبة دائماً باتخاذ قرارات مصيرية .

ثانيا، أتذكر أنه غداة غزو الرئيس العراقي الراحل صدام حسين للكويت في 2 أغسطس/ آب عام 1990 اتصل بي سفير الهند في القاهرة يطلب وبإلحاح شديد معرفة الموقف المصري بوضوح، لأن دولته قررت، وهي أكبر دول جنوب وغرب آسيا، أن تحدد موقفها على ضوء الموقف المصري فقط احتراماً منها لدور مصر الإقليمي وتقديراً لمكانتها الدولية، وهذا يعني ببساطة أنه حتى إذا حاولنا أحياناً التملص من مسؤوليات الدور، فإنها تظل تلاحقنا مهما كانت الملابسات والأسباب، ولعلي أذكّر الجميع أن اختيار أوباما منبر جامعة القاهرة ليخاطب منه العالمين العربي والإسلامي، هو في حد ذاته تأكيد تلقائي على أهمية الدور المصري، بل إن مصر إذا غابت عن محفل عربي أو إقليمي فإنها تبدو دائما هي ذلك الغائب الحاضر، إنني أؤكد مرة أخرى أن مصر دولة غير قابلة للعزلة بحكم الجغرافيا، وغير قابلة للتجاهل بمنطق التاريخ، وغير مستعدة للتنازل بتأثير المبادئ .

* ثالثاً إننا عندما ننظر إلى لخريطة السياسية للشرق الأوسط حالياً، ندرك أن مصر -رغم كل الحديث المكرر عن تراجع دورها، ما زالت ملء السمع والبصر، فهي قادرة على الإمساك بدورها في أي لحظة، لأنني لا أتصور بديلاً لها، فلا تركيا ولا إيران ولا غيرهما يمكن أن يكون تعويضاً لغياب الدور المصري مهما كانت المواقف والمصاعب والتحديات، والذين عملوا في خارج مصر ومثلوها في البعثات الدبلوماسية أو المحافل الدولية يدركون قيمة كلمة مصر ورنينها اللافت في كل مكان . فأينما وليت وجهك تجد للدور المصري مكاناً ومكانةً، فهي الدولة العربية المركزية المحورية، وهي الدولة الإسلامية الرائدة والقائدة، وهي الدولة البحر - متوسطية التي ارتبطت ثقافياً ببحيرة الحضارات الأوروبية الآسيوية الإفريقية، وهي بالنسبة لقاراتها الأم، هي تلك الدولة التي حملت معاول التعمير ومشاعل التنوير، وظلت لسنوات طويلة تحنو على دول القارة التي تواجه أصعب الظروف وأعتى المشكلات، وفوق هذا وقبله، فمصر دولة ذات مسؤوليات دولية والتزامات عالمية أثبتت للجميع درجة عالية من المصداقية والانضواء تحت مظلة المجتمع الدولي الذي يسعى إلى السلام ويتجه نحو الرفاهية .

* رابعاً إن أدوات الدور المصري تختلف كما قلنا من عصر إلى آخر، ولكنها تقوم في كل الأحوال على الفهم الوطني لطبيعة ذلك الدور، واستغلال الميزة النسبية في الشخصية المصرية من أجل تحقيق الأهداف القومية والغايات الإقليمية . لقد استمعت منذ شهور إلى وزير الدفاع الأمريكي وهو يتحدث من إحدى الفضائيات، غير المتعاطفة مع مصر، فإذا به يقول نصاً ويبقى الجيش المصري هو أقدم جيوش المنطقة وأكبرها وأكثرها مهنية وأستطيع أن أقول هنا إنني قد استمتعت في تلك الليلة بنوم عميق بعد سماع هذه العبارة في إحدى أمسيات صيف عام 2008 .

* خامساً إن مناخ الإحباط الذي يراد له أن يحطم الكبرياء المصري، وأن ينال من ثقة المصريين في أنفسهم يجب ألا يتجاوز حدوده، فلو أن لك ابناً تعتز به، ولكنك من قبيل حفزه على النجاح أصبحت تكرر أمامه قولك إنك فاشل، إنك فاسد إنك بلا مستقبل، أستطيع أن أؤكد لك هنا أن ذلك الابن سوف يصبح فاشلاً وفاسداً وبلا مستقبل . فرحمةً بمص،ر فالكنانة حافلة بالإيجابيات والطاقات البشرية الهائلة والعقليات المتميزة أقول ذلك رغم شيوع الفساد في بعض مناحي حياتنا، وسيطرة التطرف على جوانب في مجتمعنا، فأنا لا أدعي أن الأوضاع وردية، ولكنني لا أقبل أن أصف كل شيء على أرض الوطن بأوصاف سلبية، فذلك افتراء على الحقيقة وعدوان على الحاضر ومصادرة على المستقبل .

هذه رؤية للدور المصري الذي نريده خادماً للأهداف الوطنية، متماشياً مع الشخصية المصرية، مؤمناً بأن لكل جهد دولي أو إقليمي عائده، وأن الدور في النهاية ليس مجموعة شعارات أو مغامرات أو حتى مفاجآت، إنه عمل مدروس يقوم على حسابات صحيحة وتوقعات مؤكدة، فليست النوايا الحسنة وحدها هي طريق النجاح، كما أن طريق الفشل أحياناً مفروش هو الآخر بمثل تلك النوايا الحسنة .

إن مصر دولة وسطية من أم إفريقية وأب عربي، بعقلية بحر متوسطية ووجدان إسلامي، هكذا أرادها الله وسوف تبقى دائماً حاضنة لتراثها الخالد، حامية لنيلها الذي لا يتوقف، متمسكة بوحدتها الوطنية التي لا تنفصم، تنشر الضياء حولها لأنها شمس لا تغيب .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"