مشروعان وطنيان . . رؤية وإرادة

04:56 صباحا
قراءة 5 دقائق

تحدثنا كثيراً في السنوات الأخيرة عما نطلق عليه غياب المشروع القومي، أو التقصير في حشد الأجيال الجديدة صوب هدف مشترك يحفز الهمم ويقوي الشعور بالانتماء ويدفع نحو آفاق مستقبلية واعدة، ويتذكر الناس سنوات الحماس التي صاحبت ذلك المشروع القومي الكبير وهو بناء السد العالي، وما تواكب معه من معارك عسكرية ودبلوماسية انصهرت بها إرادة الأمة، كما تألقت معها مشاعر الجماهير، ولقد ألحت عليَّ دائماً خواطر ضاغطة توجهني نحو التفكير في مشروعات وطنية كبرى يلتف حولها الناس، ويعمل من أجلها كل من ينتمي إلى الوطن المصري .

وقد وجدت أمامي مباشرة مشروعين وطنيين كبيرين لا يحتاجان إلى جهد إعلامي أو نشاط سياسي حتى يلتف الناس حولهما، وهما المشروع القومي لتعمير سيناء ومشروع إزالة الألغام من الصحراء الغربية، ويجب أن أعترف للصديق العزيز د . حسام بدراوي بأنه مسؤول عن مزيد من التحريض تجاه ما ذكرناه، فقد دعانا صفوة من جيلين مختلفين حتى كنت ترى في ذلك اللقاء الآباء وأبناءهم يتحاورون، وكان اللقاء ثرياً عندما طرح د . بدراوي تصوره الشامل لرؤية متكاملة تسعى لتنمية ضفتي قناة السويس وتحويلها إلى مجتمعات نامية فيها الصناعة والسياحة والزراعة وتجارة الترانزيت وبيع الخدمات . وهذا التصور لو تحقق فإنه ينقل مصر اقتصادياً نقلة نوعية كبيرة . ولقد سألت د . بدراوي يومها كيف لم يفطن المصريون منذ عام 1869 حتى الآن إلى أن قناة السويس لا يجب أن تكون مجرد ممر مائي فقط، ولكنها تتجاوز ذلك بكثير لكي تكون قاطرة لتنمية الوطن كله؟ وكان د . بدراوي يرد بحماس العالم ووطنية المصري الذي يحمل على كاهله جزءاً من هموم الوطن، يشغل فكره ويشعل لديه شرارة التفكير المبتكر والرؤية الشاملة، اعتماداً على الإرادة الجماعية للمصريين كما عهدناهم دائماً، وأحب أن أشير هنا إلى أن أفكار وآراء أبنائنا وبناتنا ممن حضروا اجتماع د .حسام بدراوي كانت رائدة ورائعة، وأنا أبشر هنا بأن الأجيال الجديدة لديها من الإمكانات ما لا نتوقعه .

أعود إلى المشروعين الوطنيين الكبيرين اللذين أريد لهما أن يجتاحا ساحة الوطن بدلاً من الثرثرة السياسية واللغو العام اللذين يسيطران على حياتنا أحياناً، وإن كنت أشير هنا بضمير وطني صادق إلى ضرورة مواصلة ضرب الفساد في كل نواحي حياتنا وتنقية مسيرتنا، كما ارتضيناها في لحظة البداية، فالوطن أغلى وأشرف وأكبر من كل الممارسات المشبوهة أو التصرفات اللا مسؤولة والأخطاء المتكررة، وإذا كنا نتحدث عن مشروعي تعمير سيناء ونزع الألغام من صحرائنا فإن ذلك يقودنا إلى النقاط التالية:

أولاً: إن تعمير سيناء مسألة طال الحديث فيها وكثرت المشروعات حولها وتناثرت الأفكار بشأنها، ومنذ استعادت مصر ترابها الوطني الكامل عام 1982 ونحن نتحدث في كل المناسبات عن سيناء وتعميرها وإعادة تأهيلها لكي تكون منطقة جاذبة للمصريين في استثمارات صناعية وزراعية وسياحية، لا تقف عند عدة مزارات على شاطئ البحر مهما كانت قيمة تلك المزارات وروعتها، إلا أن وسط سيناء الخالي يحيلها إلى مرتع للطامعين وجزء من مخطط الحاقدين على مصر وترابها الوطني، لذلك فإن قضية تعمير سيناء ليست قضية تتعلق فقط بالتنمية والاستثمار، ولكنها تتعلق بأمن مصر القومي ومستقبل السلام على أرضها، فقد جاءتنا معظم الغزوات تاريخياً من ذلك المدخل الآسيوي في شبه جزيرة سيناء، ولن يكون الدفاع عنها بالوجود العسكري وحده لأننا نعلم جميعاً أن المناطق الآهلة بالسكان تكون عصية على الغزاة ممن يريدون بالوطن سوءاً وينظرون إليه حقداً وطمعاً .

ثانياً: لا نعرف على وجه اليقين الأسباب التي أدت إلى تأخير تنفيذنا لبرنامج وطني طموح لتعمير سيناء، فهل هو التقاعس الذي أصاب حياتنا عموماً؟ أم هي والعياذ بالله ضغوط خارجية لا ترى في مصلحتها تعميراً لهذه الأرض الطيبة التي تحدث من فوقها كليم الله موسى عليه السلام، فهذه القوى الخارجية تستمرئ فراغ سيناء وخلو عمقها من التجمع السكاني وتعول دائماً على سوء التوزيع الديمغرافي في مصر الذي يترك سيناء دائماً خالية رغم الزيادة السكانية التي يعاني منها الوطن ورغم وجود الخبرات الوطنية القادرة على إدارة مشروع قومي واسع لتعمير سيناء، خصوصاً وأننا لا يجب أن نقف عاجزين أمام ندرة المياه، أو أمام تمسك الفلاح المصري بأرضه الغالية في الدلتا والصعيد، لأن عليه أن يدرك أنه عندما يذهب إلى سيناء فإنه يؤدي واجباً وطنياً قبل أن يحقق عائداً استثمارياً .

ثالثاً: لا أفهم كيف تكتظ الخريطة المصرية بالسكان في محاولة للنمو رأسياً دون الامتداد الأفقي في صحرائنا الواسعة غرباً وشرقاً، وفي مقدمتها صحراء سيناء التي استطعنا أن نحقق لها التحرير الكامل، ولكننا لم نتمكن من الاتجاه نحو التعمير الشامل، وعلى الرغم من أنني لست متخصصاً في الشؤون الزراعية والصناعية، إلا أنني أظن أن زراعات معينة تبدو مبشرة بالخير إذا ما غزونا بها سيناء، واضعين في الاعتبار أن هناك بحيرات ضخمة من المياه الجوفية، وأن صحراء سيناء ورمالها تربض تحتهما بحيرات من المياه الصالحة للأحياء وللري وللزراعة، فضلاً عن ثراء سيناء تلك المنطقة بالمعادن النادرة فهي بحق أرض الفيروز .

رابعاً: يجب أن نعترف هنا أيضاً بأننا لم نحسن التعامل مع بدو سيناء، وهم شريحة لا تتجزأ من نسيج الوطن، كما أننا لم نتعرف إلى كيمياء التعامل الصحيح معهم، فالبدوي قد يختلف عن فلاح الدلتا أو صعيدي الوادي في أسلوب التعامل وطريقة احتوائه مواطناً يشعر بأحضان الوطن الدافئة، بدلاً من شائعات التخوين والإساءة إلى من كانوا رصيداً وطنياً عبر العصور . ولن يتحقق تعمير سيناء إلا بتضافر جهود كل أبنائها فعندما ينتقل إلى وسطها فلاح المنوفية وعامل سوهاج تكون تلك هي إشارة البدء في التعمير الحقيقي وإعادة التوزيع الديمغرافي لسكان مصر .

خامساً: إذا انتقلنا إلى مشروع إزالة الألغام فإنني أبدأ بتحية الوزيرة، ابنة الدبلوماسية المصرية وصاحبة الحضور الدولي المشهود فايزة أبو النجا، التي تقوم بإحياء الشعور الوطني تجاه إزالة الألغام من صحرائنا الغربية، والتي تقدر مساحتها بخمس الخريطة المصرية كلها، فهي مزرعة القمح في العصر الروماني، ونريد لها أن تعود خضراء كما كانت ترتفع فوقها أشجار الزيتون وحدائق الفاكهة، وربما نستعيد فيها مزارع القمح مرة ثانية حتى يكون التصدير إلى أوروبا عبر الساحل المقابل مصدراً أساسياً للثروة المنتظرة وللحياة الأفضل، ولا أنسى جهد زميلي السفير فتحي الشاذلي معاون الوزيرة في هذا الشأن، وهما يعترفان، الوزيرة ومعاونها، بالجهد الرائع لقواتنا المسلحة التي تقوم بالتنفيذ بكفاءة عالية وحرفية مشهودة ومساحة زمنية محددة . إنها القوات المسلحة التي لا تحافظ على الأمن القومي فقط ولكنها ترعى المصلحة الوطنية العليا في كل اتجاه .

سادساً: إنني أظن أن موضوع الألغام يحتاج منا إلى حملة دولية تطالب فيها مصر من زرعوا تلك الألغام سواء من دول الحلفاء أو المحور في الحرب العالمية الثانية لكي يكفروا عن خطاياهم ويعتذروا للأرض المصرية من خلال تحملهم لنفقات إزالة تلك الألغام، فذلك أقل ما يقدمونه للشعب المصري الذي استباحوا أرضه وشوهوا صحراءه، وإذا كانت استجابة تلك الدول محدودة فإن اللجوء إلى القانون الدولي المعاصر قد يعطينا السند الملائم في ذلك .

. . . تلك تصورات أطرحها بتجرد وموضوعية أمام الرأي العام المصري حتى نكثف الحملة الوطنية من أجل تعمير سيناء وإزالة الألغام من الصحراء الغربية، بدلاً من أن نتباكى على غياب المشروع القومي، فلدينا بدلاً من المشروع الواحد اثنان في ذات الوقت .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"