معدل الحياة بين السياسة والمجتمع

02:00 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

يمثل حساب معدل الحياة في الدول، أحد المعايير الأساسية لقياس مستوى التقدم والنمو الذي تحققه على مستوى التنمية البشرية، ويجري توظيف الإحصائيات المتوفرة في هذا المجال من أجل قراءة معطيات النمو السكاني في الدول ودراسة تأثيرات كل ذلك على المستويين السياسي والاجتماعي. ويستخدم معدل الحياة كمؤشر لتقويم مستوى التطور السكاني، وقد بدأ هذا المعدل يحظى خلال السنوات القليلة الماضية، باهتمام متزايد من طرف النخب المفكرة، لما له من تأثير هائل على الدول وعلى السياسات التي ترسمها فيما يتعلق بآفاق التنمية المستدامة.
ومن الواضح أن معدل الحياة في المجتمعات يرتفع مع تطور مستوى المعيشة والتقدم الحاصل في مجالات الصحة ورعاية الأطفال، وتظل التوقعات بشأن هذا المعدل صحيحة، طالما حافظت هذه المجتمعات على مستوى التقدم الذي حققته وطالما بقيت أيضاً بعيدة عن أسباب الحروب والكوارث، لأن تردي الشروط المتوافرة في مرحلة الولادة يؤدي حتماً إلى تراجع معدل الحياة بالنسبة لمواطني دول تخوض شعوبها حروباً مدمّرة مثلما هو الحال عليه في دول عربية مثل العراق وسوريا.
ويمكن القول في هذا السياق، إن معدل الحياة لا يرتبط فقط بمستوى التقدم، فهناك مجتمعات تقليدية حافظت على معدل حياة مرتفع بالرغم من تواضع إمكانياتها نظراً لامتلاكها لنسق مجتمعي يوفر عناية خاصة للأفراد المتقدمين في السن، لذلك فقد ذهبت حنة أرنت إلى أن الغرب الذي ظل يعيش في مراحل متعددة من تاريخه في وضعية يغلب عليها عدم الاستقرار، لم يعرف تقدماً في معدل الحياة إلا مع بداية مرحلة التصنيع التي كانت تحمل بالرغم من ذلك الكثير من العناصر المضِرّة بالحياة البشرية.
وتشير الدراسات المتخصصة إلى أن معدل الحياة يمثل قياساً على الولادة، متوسط عمر المتوفين عند شعب معين؛ ويقول جان فرانسوا دورتيه إن هذا المؤشر لم ينقطع عن الارتفاع في كل أرجاء الكرة الأرضية خلال القرن العشرين، ما عدا في إفريقيا وروسيا في السنوات العشرين الأخيرة، مع اختلافات كبيرة وواضحة ما بين الدول الغنية والفقيرة. ويتأثر معدل الحياة بمعدل وفيات الأطفال، فعندما يرتفع معدل وفيات الأطفال يتراجع معدل الحياة بشكل ملموس، ويختلف معدل الحياة في البلد الواحد باختلاف الجنس وباختلاف المهن وأحياناً أخرى باختلاف المناطق، لأن معدل الحياة عند النساء أكثر ارتفاعاً من المعدل الذي نلفيه عند الرجال، نتيجة لحرص النساء على اتّباع نظام صحي أكثر انضباطاً من الرجال، وبسبب تعرض الرجال للاعتداءات ولمخاطر الحروب أكثر من النساء، كما أن معدل حياة العمال هو أقل من معدل حياة الكوادر، لأن العمال يتعرضون لمخاطر مهنية عديدة، ويواجهون مشقة أكبر في القيام بأعمالهم.
هناك في السياق نفسه، صلة وثيقة بين معدل الحياة وعلم السكان الذي يدرس الشعوب البشرية ويرقب تطور الماضي، ويقدم التوقعات المستقبلية، وقد بات علم السكان يمثل مركز الرهانات الاقتصادية والجغرافية السياسية الكبرى؛ وقد شعرت البلدان الأوروبية بالقلق بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، جراء النتائج الاقتصادية التي تترتب عن النمو السكاني ثم توجست بعد ذلك من مخاطر تراجع الخصوبة، التي تؤدي إلى تزايد أعداد المسنين في مقابل أعداد الشباب. ولعل الرهان الأساسي الذي شغل المختصين في علم السكان منذ الخمسينات من القرن الماضي، تمثل في الانفجار السكاني الذي شكل تحدياً جيوسياسياً كبيراً بالنسبة للدول، من خلال الإشارة إلى القنبلة السكانية في دول العالم الثالث وتوقعات الزيادة في الخصوبة خلال السنوات المقبلة.
وعليه، فإنه وبالرغم من التقدم الذي حققته البشرية خلال العقود الماضية إلا أن الفرق في معدل الحياة بين الدول الغنية والفقيرة لا يزال مرتفعاً، وقدّره تقرير المنظمة العالمية للصحة ب18 سنة، كما أشار التقرير نفسه إلى أن معدل الحياة في العالم كسب 5 سنوات إضافية في الفترة الممتدة من سنة 2000 إلى سنة 2016، لكن هذا التقدم لم تكن له دائماً نتائج إيجابية على المستوى الاجتماعي والسياسي؛ حيث يشير «ميشال سير» إلى أن الإنسان في عصرنا كسب 3 ساعات يومية في معدل حياته، لكنه يضيّعها في الجلوس أمام التلفاز، كما أن انتقال الثروة من الآباء إلى الأبناء لم يعد يحمل المعنى نفسه، لأنه يحدث غالباً عندما يصل الأبناء إلى مرحلة الشيخوخة، أما على المستوى السياسي، فإن النزاعات والحروب والهشاشة المؤسساتية، تمثل في مجملها عوامل سلبية تكاد تفرغ هذا التقدم الإنساني من كل دلالاته الحقيقية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"