من الثورة إلى النهضة

04:59 صباحا
قراءة 6 دقائق

تشدني كلمة النهضة دائماً وتدق لديّ أجراساً معينة، فهي تأخذني مباشرة إلى عصر النهضة الأوروبية وأيضاً إلى المسار النهضوي الذي سلكه رفاعة الطهطاوي في القرن التاسع عشر ومن جاءوا بعده . وإذا كنا نحتفي بثورة الشعب المصري التي قادها شبابه الواعد على نحوٍ غير مسبوق فإن النهضة هي القرين التلقائي لمفهوم الثورة حتى لا تكون الدماء التي أهدرت قد ذهبت هباء، فالشهداء يطلون علينا من علياء لكي يقولوا لنا: تلك أرواحنا بذلناها من أجل نهضة الوطن وصحوته من رقدته التي وصلت به إلى حالة من شيخوخة العقل والقلب والترهل السياسي والاقتصادي بل الثقافي أيضاً . لذلك فإننا نتذكر مع القارئ كل الكتابات التي كانت تتحدث عن مصر في العقود الأخيرة مشيرة إلى مقومات الانطلاق لديها والتحليق في سماوات التحديث والعصرنة ويتساءل أصحابها: كيف لبلدٍ لديه النيل العظيم ويطل على بحرين مفتوحين ولديه أراضٍ خصبة وصحراء شاسعة وموارد بشرية هائلة ومصادر طبيعية كبيرة، كيف لبلد كهذا أن تكون أوضاعه على ما كانت عليه؟ إن المخرجات لا تتفق أبداً مع المدخلات، ويبدو أن الفارق بينهما يمكن تلخيصه في الفساد والبيروقراطية وضعف الانتماء الوطني وقلة الحماسة لمشروع مجتمعي واضح . أظن أننا قد أعطينا انطباعاً رائعاً للعالم كله من خلال ما وصله عن الثورة الشعبية المصرية الفريدة التي قدمت نموذجاً جديداً في تاريخ الثورات جغرافياً وتاريخياً، فلا نكاد نجد لها نظيراً في دول العالم الأخرى، كما أنها تتميز عن ثورات الشعب المصري ضد الحملة الفرنسية وضد الاحتلال البريطاني وضد العرش العلوي، لأن ثورة 25 يناير ثورة شعبية مصرية اتسمت بالتلقائية والعفوية والإصرار على تحقيق الهدف، ويكفي أن نتأمل الرسالة الإلكترونية التي انتشرت بشكل واسع وهي تحمل مقتطفات من أقوال زعماء العالم حول تلك الثورة الفريدة، كما أنني أسجل أيضاً أن استخدام الثوار خصوصاً الشباب منهم للتقنيات الحديثة في عالم تكنولوجيا المعلومات قد أسهم هو الآخر في إعطاء هذه الثورة الشعبية طابعاً عصرياً يستهوي الأجيال الجديدة في عالم اليوم . وأنا أريد لهذه الثورة أن تتحول من فوران إنساني لا يخلو من العاطفة إلى قوة دفع بشري لا تبعد عن العقل، فنحن أمة البنائين تاريخياً، وقد قال لي ذات يوم عالم الجغرافيا الراحل د .سليمان حزين إن المصري يتمتع بذكاء اليدين لذلك شيد الأهرامات وبنى الحضارات واستوعب الثقافات، وقد حانت لحظة الاختبار في أعقاب هذه الثورة لنتخلص من عيوب الماضي وأعبائه ونتجه بمنطق الكل في واحد لإقامة دولة عصرية بالمعنى الحقيقي تستوعب ما يدور في الدنيا وتتفهم روح الدولة الحديثة التي تقوم على دستورٍ رصينٍ ومتوازن يكون مكتوباً بلغةٍ واحدة لا تعرف الترقيع ولا تحتاج إلى الحذف والإضافة من حينٍ لآخر . فالدستور وثيقة سامية يجب أن ترقى فوق التغييرات الطارئة والأحداث العابرة حتى تتميز بدرجة عالية من الاستقرار والاستمرار والاحترام، كما أن دولة القانون هي الدولة الديمقراطية الحديثة بمعناها الكامل التي لا يسقط فيها من الحساب فئات معينة ولا يجري معها تهميش طوائف بذاتها، إنها دولة المواطنة الكاملة التي يدرك فيها كل فرد أنه سيد قدره ومصيره، كما أن احتكار الوطنية مثله كمثل احتكار السلطة بل احتكار الثروة أيضاً، فهذه كلها تعبيرات كريهة تشير إلى التعصب وعشق الذات وإنكار الآخر والعدوان المباشر على المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية في وقت واحد .

إنني أتصور أن تقوم مصر بخطوات جادة وواسعة على طريق الاستنارة وصحوة العقل وتحديث الفكر، خصوصاً أننا بلد يملك كفاءات عالية وقدرات متميزة، ويكفي أننا في غمار تلك الثورة وجدنا أنه قد اختلطت معها أصوات مشرفة من أمثال أحمد زويل، ومحمد البرادعي، وفاروق الباز، أي أنه لدى مصر رصيدٌ بشري هائل معترفٌ به عالمياً ومقدرٌ دولياً، لذلك فإنني أسمح لنفسي بأن أحدد بعض الملامح باختصار لرؤية المستقبل:

أولاً: لقد أصبح لزاماً علينا وقد أهدرنا الكثير توظيف أفضل الكفاءات المصرية في المواقع المهمة والمؤثرة بعيداً عن الشخصنة والدوافع الذاتية التي أهلكتنا وعصفت بكفاءاتٍ عالية وأطاحت خبراتٍ نادرة في العقود الماضية، وينبغي أن يحكمنا معيار واحد هو وقوف المصري أو المصرية على أرضٍ وطنية دون النظر إلى عقيدةٍ دينية أو فكرٍ إيديولوجي أو اقتناعات خاصة، فقد جاء الوقت ولو أنه متأخر لكي يكون المصريون سواسية أمام القانون المطبق والفرص المتاحة والوظائف العامة، وما أكثر ما رأيت ورأى غيري عمليات متواصلة للعبث بأصحاب الفكر والرأي وتشويه ذوي الخبرة وتقديم أهل الثقة وذوي المحسوبية وأصحاب الحظوة تغليباً لحسابات شخصية وتحقيقاً لمكاسب عائلية أو فئوية، لقد آن الأوان لأن تشهد مصر نقلة نوعية كبرى في هذا السياق .

ثانياً: إنني أدرك صعوبة المرحلة التي نمر بها، فمعظمنا تعامل مع أنظمة سابقة وأنا منهم وبعضهم لم يكن راضياً عما يدور، ولكن الخوف البشري ظاهرة إنسانية، خصوصاً إذا كان الطرف الآخر هو الأقوى والأقدر على التشويه والاغتيال المعنوي وحجب الحقوق عن أصحابها وتقديم نصف العقل على كامله، ومخاصمة الثقافة ومعاداة الفكر، واعتماد الغيرة الإنسانية أداةً تدفع إلى إطاحة الأكفأ وتلوث الأفضل . وقد كتبت بهذا المعنى مقالات عديدة في السنوات الماضية كان عنوان إحداها (الإطاحة بالكفاءات والعصف بالخبرات)، ولكن المناخ العام لم يكن يقرأ جيداً وإذا قرأ لا يستوعب وإذا استوعب فإنه ينكر على نفسه فهم الحقيقة! فما أكثر ما ضاع على هذا الوطن من كفاءات وما هرب منه من خبرات وما جرى خنقه بداخله من قدرات .

ثالثاً: إن وضع رؤية شاملة تدعمها إرادة ثابتة وتقوم عليها أيدٍ نظيفة هي مقومات خريطة الطريق للوطن المصري الذي يعتبر أغنى الأوطان، إذ تجري سرقته وتجريف ثروته عبر آلاف السنين ولكنه يبدو صامداً في أحلك الظروف وأصعب الأوقات يكفكف دموع فقرائه ويواسي المقهورين في أرضه بحديث ممل عن التكافل الاجتماعي والعدالة الغائبة على حساب ضرائب الأثرياء التي يجري حجبها، وأراضي الدولة التي جرى ابتلاعها، والذين يعرفون الحقيقة يرقبون المشهد في يأسٍ ومرارة وحسرة ويحلمون بيوم بدأت طلائعه بمهرجان الفجر الذي أشرقت شمسه في الخامس والعشرين من يناير 2011 . وقد يقول قائل: إذا كنتم تتغنون بالثورة فأين كنتم قبلها؟ والواقع أننا كنّا نرى الفساد ونتحدث عنه ونتطلع إلى الإصلاح فنراه بطيئاً لا يكاد يشعر به أحد، وندرك حجم الفجوة الاجتماعية محذرين من فقراء العشوائيات وثورة الجياع منذرين بالزلزال القادم .

رابعاً: إن التعليم الذي يقدم المادة المتاحة للبحث العلمي بل للثقافة والإعلام أيضاً هو بوابة العصر التي تدخل منها الشعوب في اتجاه المعرفة التي يوفرها القرن الحادي والعشرون، وأريد أن يتذكر الجميع أن الدور المصري قد تراجع وأن الأداء الوطني قد تخلف عندما تهاوى النظام التعليمي المصري، وظل يترنح نتيجة اعتماد نظرة الكم على حساب الكيف، وازدواج المفاهيم بين المجانية المدعاة والتكلفة الحقيقية، فضلاً عن تعدد نظم التعليم وتباين أساليبه داخل الوطن الواحد، لذلك فقد جاء الوقت للاعتراف بأن التعليم هو مصدر الإلهام الوطني والبوتقة التي تنصهر فيها الشخصية المصرية لكي تصنع مجتمعاً متجانساً ودولة سوية، فالتعليم كالخدمة العسكرية لابد أن يقوم كلاهما على المساواة المطلقة من دون تمييز أو تهميش أو إقصاء .

خامساً: لقد قلنا كثيراً إن الإصلاح منظومة متكاملة فيه إرادة سياسية ورؤية علمية وتفكير موضوعي، مع نظرة شاملة تتكامل فيها العناصر الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ويتم بها التوظيف الأمثل للسكان بتحويل الكم إلى كيف حتى تصبح الزيادة السكانية نعمة لا نقمة، وليست تلك بدعة فقد سبقتنا إليها أمم كثيرة في مقدمتها الصين والهند .

. . أيها السادة: إن كتالوج الإصلاح ليس معقداً ولا غامضاً بل إنه سهل يسير ولكن المهم فيه أن تدرك الشعوب من أين تبدأ ثم لا تنتهي أبداً، فالوقوف في منتصف الطريق قد أضاع علينا الدخول إلى عصر النهضة المصرية عدة مرات عبر تاريخنا الحديث .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"