موسم السراب الفلسطيني

05:27 صباحا
قراءة 3 دقائق

موسم السراب الفلسطيني ظاهرة طبيعية - سياسية، تتجدد بشكل عام كل أربع سنوات (واحيانا كل ثماني سنوات) مع تجدد ساكن البيت الأبيض في واشنطن، وذلك على الأقل منذ ولاية جورج بوش الأب، في الهزيع الأخير من القرن المنصرم، المتزامن مع التحول الهائل في مسار القضية الفلسطينية الذي أحدثه الكشف عن اتفاقات أوسلو السرية.

ويتلخص موسم السراب الفلسطيني هذا، أنه مع كل دخول رئيس أمريكي جديد إلى البيت الأبيض، يتجدد الأمل بأن حل القضية الفلسطينية على أساس دولتين متجاورتين، قد اصبح وشيكاً. بل إن أكثر من رئيس أمريكي سابق، كان يحدد منذ بداية ولايته موعد إنجاز هذا الحلم، لكن ولاية كل الرؤساء كانت تنتهي (وأحياناً بفترة مضاعفة لثماني سنوات)، وإذا بالحلم لا يتحول فقط إلى سراب، بل تزداد ظروف إنجاز مشروع الدولتين صعوبة وتعقيداً، إلى درجة باتت تقترب مؤخراً من الاستحالة، مع ارتفاع نسبة استيطان أراضي الضفة الغربية، وتهويد القدس (خاصة قسمها العربي المرصود نظرياً ليكون عاصمة للدولة الفلسطينية) إلى درجة لا سابق لها في تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي، ولا في تاريخ مواسم السراب الفلسطيني، المتجددة من دون طائل.

لكن لنعترف بأن مشهد السراب الفلسطيني في هذا الموسم بالذات، مع بداية العام ،2009 يخلب الأبصار بدرجة لا مثيل لها في المواسم السابقة، لأنه مشهد مركب من عنصرين متكاملين متزامنين:

عنصر تطور إيجابي نسبي، في المشهد الأمريكي، يتلخص في نهاية عصر المحافظين الجدد مع رحيل بوش الابن، وبداية عصر أول رئيس من أصول إفريقية تطأ قدماه عتبات البيت الأبيض، مثقلا بوعود بالتغيير في كل اتجاه.

عنصر تطور سلبي نسبي في المشهد الإسرائيلي، يتلخص في تحول المجتمع الاسرائيلي نحو اليمين واليمين المتطرف، بدرجة لا سابق لها في تاريخ دولة اسرائيل منذ إنشائها. ومع أن تاريخ الحركة الصهيونية في إدارة دولة إسرائيل قد أثبت أنه قلما يسمح لنا بالتمييز بين يمين ويسار ووسط في الحركة الصهيونية، فإن معاني هذا التحول النسبي الجديد لا يمكن أن لا تؤخذ في الحسبان.

طبعاً، كعادتنا نحن العرب الذين أدمنا عشق مشهد السراب الفلسطيني، رغم تجدده من دون طائل مرات عديدة، كما أدمنّا عشق المراهنة على المياه العذبة الوفيرة بل الغزيرة التي يحملها إلينا هذا السراب، بدأت بعض أوساطنا على الصعيدين الرسمي والشعبي، تراهن على قرب وقوع الصدام أخيراً بين التوجهين الأمريكي والإسرائيلي في موضوع القضية الفلسطينية، إلى درجة الغوص بين سطور الصحافة الأمريكية والصحافة الاسرائيلية، والتقارير الأمريكية والتقارير الاسرائيلية، لالتقاط العلامات والإشارات المبشرة بهذا التصادم. مما يؤكد أننا ما زلنا واقعين حتى إشعار آخر في فخ الخلط بين السراب وينابيع المياه الحقيقية في السياسة.

إن أصحاب مثل هذا الموقف يلغون من ذاكرتهم أكثر من تقارب سابق في اللهجة السياسية، ظهر في عهد جيمي كارتر، ثم في عهد بوش الاب، ثم في عهد كلينتون، ومع ذلك فإن متانة التماسك الاستراتيجي بين المصالح الامبراطورية الأمريكية والمصالح الإسرائيلية، كانت دائما لها الغلبة في النهاية. إلى درجة أن الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، لم يتحول إلى مواقف فيها الكثير من تفهم منطق المصالح العربية في الصراع، إلا بعد أنأاصبح رئيساً أسبق لا حول له ولا قوة. أما عندما كان رئيساً، فلم يكن ممكناً لقناعاته الشخصية المختلفة (إن وجدت) أن تتضارب مع وجهة نظر المؤسسة الأمريكية الحاكمة.

بل إن أصحاب هذا الموقف العربي المبالغ في التفاؤل، عند ظهور أي سراب جديد، يتناسون تطوراً سلبياً مهماً لا يزال يفرض نفسه على الساحة العربية عموما، والفلسطينية خصوصا، منذ ثلاثة عقود، حتى يومنا هذا.

فإذا كان ظهور مثل هذا السراب السياسي لم يفض منذ عقدين أو ثلاثة إلى أي نتيجة، بل كانت ترجمته العملية مزيداً من الاستيطان والتهويد والتشدد الإسرائيلي، في وقت كان فيه التماسك العربي أحسن حالاً من اليوم، وكانت فيه الوحدة الوطنية الفلسطينية في أحسن حالاتها، على عكس ما هو الحال في هذه الأيام، فأين هي القوة العربية والفلسطينية الراهنة، التي ستفرض على الولايات المتحدة أن تطور هذا التباين اللفظي حتى الآن بينها وبين إسرائيل، ليتحول إلى ضغط يفرض على اسرائيل الالتزام بقرارات الشرعية الدولية؟

إن موسم السراب الفلسطيني هو حتى إشعار آخر، موسم دائم متكرر في كل أربع أو ثماني سنوات، ما لم يستعد العرب إرادتهم السياسية المستقلة، التي يحاورون بها الأطراف الأخرى في النزاع، دولياً وإقليمياً، وما لم يستعد الفلسطينيون وحدتهم الوطنية، على أساس برنامج سياسي واضح حده الأدنى وثيقة الأسرى الشهيرة.

فإذا لم يحدث، قبل أي شيء آخر، هذا التحول العميق عربياً وفلسطينياً، فإن موسم السراب الفلسطيني القادم من واشنطن كل أربع سنوات، هو موسم دائم، ومتكرر إلى ما لا نهاية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"