نعيش عصر “النكبة الثانية”

05:20 صباحا
قراءة 4 دقائق

بعد مرور ستة عقود على اغتصاب فلسطين، يبدو أن قضيتها قد انتقلت من مرحلة النكبة الأولى، الى مرحلة النكبة الثانية. ففي أعقاب النكبة الأولى، مرت مرحلة لم تكن فيها قضية فلسطين فقط حية في ضمير الأمة العربية من المحيط الى الخليج: جراحاً تنزف، وكرامة مهدورة لا بد من استعادتها، وأرضاً سليباً لا بد من استردادها، بل أدت مفاعليها العامة في الأرض العربية الى إطلاق المرحلة التحررية بقيادة جمال عبدالناصر. صحيح أن ملامح النهضة في تلك الفترة القصيرة نسبياً لم تلفح رياحها كل الأنظمة العربية، لكن المؤكد أن المزاج الشعبي العام للمرحلة بقي يفرض قضية فلسطين (بحماس من البعض، وغصباً عن البعض الآخر) على رأس أولويات كل الأنظمة العربية.

تلك المرحلة انتهت كما هو معروف بهزيمة ،1967 أما الرد على الهزيمة، فمع أن عبدالناصر كان قد انصرف الى إعداد عدته، مستفيداً من كل دروس وعبر وأخطاء المرحلة السابقة، فإن الأجل لم يمهله ليقود بنفسه معركة العبور التي أعد لها طويلاً، بل انتقلت القيادة بعد رحيله، الى الرجل الذي أدار معركة العبور (الرائعة عسكرياً) في أداء سياسي وصل الى توقيع اتفاقية كامب دافيد مع إسرائيل، أي الى استعادة سيناء (منزوعة السلاح)، من دون حل القضية الفلسطينية، أصل الصراع. وهو الأمر الذي كان معروضاً على عبدالناصر بغير قتال، ورفضه.

ومنذ خروج مصر من الصراع باتفاقية كامب دافيد، ثم خروج الأردن باتفاقية وادي عربة، توالى خروج الأنظمة العربية من الصراع العربي - الإسرائيلي، زرافات ووحداناً، في السر كما في العلن، حتى تلاشت القضية الفلسطينية، بكل مقوماتها الأساسية كما تجسدت في العام ،1948 وتحولت بقدرة قادر الى نزاع فلسطيني- إسرائيلي، لا يعود الى أبعد من حرب ،1967 أي أن فلسطين قد اختفت من الجغرافيا السياسية والوطنية العربية الرسمية، ليحل محلها قطاع غزة، وما بقي من الضفة الغربية بعد تهويد نسبة واسعة من مساحتها بالمستوطنات، بدءاً بتهويد القدس العربية.

غير أنه إذا غابت فلسطين التاريخية عن أجندة الأنظمة العربية الرسمية، بفعل التقادم لا بفعل استعادة الحقوق كاملة غير منقوصة، فيبدو- وهذا أمر منطقي- أن الصهيونية لا تنسى فلسطين، ولا يمكن أن تنساها، لأن وجود فلسطين (كلياً أو جزئياً) يجسد نقيض إسرائيل، ويظل يلقي أضواء ساطعة على ما حصل في العام ،1948 من طرد لشعب فلسطين من أرضه، حتى قيام الساعة.

هذا التذكر الصهيوني السلبي الدائم لفلسطين، يطالعنا في كل يوم بأشكال مختلفة، آخر هذه الأشكال تصريح وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني (القادمة الى فلسطين من بولونيا)، الذي يؤكد عمق الحقد الصهيوني الدفين على أي شيء يذكّر بفلسطين التاريخية، بما في ذلك العرب الذين لم يغادروا وطنهم في نكبة ،1948 وتحولوا بحكم الأمر الواقع، وبحكم القانون الجديد، الى مواطنين إسرائيليين يحملون الجنسية الإسرائيلية.

فمع أنه من الواضح تماماً أن كل التسويات المطروحة حالياً، هي ترجمة للهيمنة الصهيونية الكاملة على كامل التراب الفلسطيني، فإن الحقد الصهيوني لا يكتفي بتسوية ينشأ عنها كيان فلسطيني مفكك، لا تواصل بين أجزائه الجغرافية المقطعة الأوصال أصلاً، ولا سيطرة حقيقية له على موارده الطبيعية وحدوده الدولية، وأشبه ما يكون بمجموعة كانتونات بشرية ملحقة اقتصادياً بالدولة القوية المهيمنة على المساحة التاريخية من أرض فلسطين، كل هذا لا يروي غليل الحقد الصهيوني، ولا يناسب الخطط الصهيونية بعيدة المدى، القائمة على قاعدة تقول: حتى تبقى إسرائيل وتستمر، لا بد من مسح كل ما أمكن من أثر جغرافي وتاريخي وبشري لشيء كان اسمه فلسطين قبل ،1948 وأصبح اسمه إسرائيل بعد 1948 و1967.

هذا هو تماماً ما أفصحت عنه ليفني، عندما أشارت الى أن المطامح والتطلعات القومية للعرب الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، ستكون بعد التسوية في مكان آخر غير إسرائيل، في إشارة واضحة (رغم كل التكذيبات اللفظية) الى استمرار مشروع طرد عرب فلسطين من أرضهم، الذي تحقق على دفعتين كبيرتين في عامي 1948 و،1967 وما زال مستمراً بصمت وهدوء في كل يوم، حتى تدق ساعة الترحيل العلني الجماعي لعرب إسرائيل.

إنه تصريح لسياسية صهيونية تصنف في خانة الاعتدال، بالنسبة الى تطرف ليكود والأحزاب الدينية الإسرائيلية.

كان المفكر الفلسطيني الكبير الراحل فايز صايغ، يؤكد أنه لا فرق بين الصهيوني المتطرف والصهيوني المعتدل، سوى أن الأول يصرح اليوم بما يؤجل الثاني التصريح به الى غد أو بعد غد.

لكن يبدو أن بؤس التخلي العربي الرسمي المجاني عن أساسيات قضية فلسطين، قد غيّر هذا الواقع فأصبح الصهيوني المعتدل (مثل ليفني) لا يؤجل التصريح بمطامع الصهيونية في فلسطين الى غد، بل يسارع الى التصريح به اليوم، وبكل صراحة (وقاحة)، شأنه شأن الصهيوني المصنف في أقصى خانات التطرف.

إن تصريح ليفني لا يعني فقط فضح حقيقة الخطة الصهيونية بالنسبة لعرب إسرائيل فقط، بل بالنسبة للمجتمعات الفلسطينية في كافة بقاع الشتات العربية والأجنبية. فإذا كان اكتمال يهودية دولة إسرائيل لا يحتمل إقامة عربي واحد فيها، حتى ولو كان يحمل الجنسية الإسرائيلية غصباً عنه، فهو حتماً لن يحتمل عودة عربي واحد من فلسطينيي الشتات الى أرض وطنه في فلسطين التاريخية، كما صرحت بذلك ليفني نفسها.

في العام 1948 ضربت العرب وفلسطين النكبة الأولى، ونحن نعيش اليوم في ظل التخلي الكامل للأنظمة العربية الرسمية عن أساسيات القضية، عصر النكبة الثانية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"