هبّة شعبية قد تُطيح الهياكل

02:53 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمود الريماوي

قد لا يكون مهماً إطلاق وصف جامع على الهبة المشتعلة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فالأكثر أهمية هو التأشير إلى أن دوام الاحتفاظ بالاحتقان الشعبي تحت السيطرة، لم يعد ممكناً لا للسلطة الفلسطينية ولا لحكومة الاحتلال وقواتها وشرطتها وقطعان مستوطينها الغزاة.
تأتي الهبة الأخيرة المندلعة منذ أواخر سبتمبر/أيلول الماضي في ظل ظروف يمكن إجمالها بما يلي:
* أولاً استمرار قوة الاحتلال في نهج التنكيل الجماعي وتغيير معالم الأرض بالقوة، واتساع مدى الغزو الاستيطاني مترافقاً مع التهويد القسري وخاصة في القدس.
وقد كان ذلك أمراً متوقعاً مع هيمنة اليمين الأشد تطرفاً على مقاليد الحكم بزعامة نتنياهو وأحزاب دينية وأخرى «قومية» متشددة علاوة على تفشي الأفكار العنصرية والاستئصالية لدى شرائح كبيرة من المجتمع الصهيوني.
* ثانياً: الانشغال القومي والإقليمي والدولي بالبؤر الساخنة في سوريا وليبيا واليمن والعراق، وتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وافتقاد الجانب الفلسطيني إلى مؤازرين وحلفاء على الصعيد الدولي.
وتكفي الإشارة هنا إلى الدور الهزيل الذي تضطلع به الرباعية منذ نحو عشر سنوات التي تكتفي بمراقبة الوضع عن بُعد، ولا تحمل توصياتها أي صفة إلزامية مما أطلق أيدي الاحتلال في التوسع والتنكيل، وجعله على الدوام بمنجاة من أي عقاب أو مساءلة.
*ثالثاً: حالة التكلس التي يشهدها الوضع الفلسطيني والذاتي منذ بضع سنوات، وواقع الانقسام بين قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة، والانشغال إما بتصفية الحسابات بين أركان السلطة في رام الله، أو تثبيت سلطة الأمر الواقع في غزة.
*رابعاً: انسداد الآفاق أمام العملية التفاوضية، التي يريد العدو استخدامها كغطاء لخططه التوسعية ولصرف الأنظار عن ممارساته الوحشية، مع افتقاد نصير دولي يحمل المحتلين على وقف إجراءاتهم الأحادية غير المشروعة وخاصة الاستيطان بالتزامن مع أية عملية تفاوضية مزمعة ومفترضة.
*خامساً: إلى ما تقدم من ظروف وعوامل فقد جاءت التعديات الجسيمة والمحمومة التي ترتكبها حكومة نتنياهو بتسهيل تدنيس الأقصى واستباحته من قبل عنصريين متطرفين بمثابة الشرارة التي أطلقت الهبّة الجديدة، وذلك أمام عجز السلطة والفصائل عن تنظيم مقاومة شعبية سلمية لهذه التجاوزات الخطيرة والمتمادية والمرعيّة رسمياً وبكل صلافة من حكومة نتنياهو.
وما يسترعي الانتباه أن هذه الهبّة قد اتخذت طابعاً عنيفاً هذه المرة، وإن كان هذا العنف يقتصر على مبادرات فردية في استخدام أسلحة بيضاء أحياناً من دون ما عداها من أسلحة.
واقع الحال أن الوجود الصهيوني في الأراضي المحتلة يتسم بالعسكرة الكاملة، فالمستوطنون شأنهم شأن أفراد الجيش والشرطة كلهم مدججون بالأسلحة، ويستخدمون مظهرهم المسلح للاستعراض من جهة وللترويع من جهة ثانية وللتنكيل الفعلي من جهة ثالثة.
وقد عمدت سلطات الاحتلال في السنوات القليلة الماضية إلى أساليب القمع الدموي لكل مظاهر الاحتجاج الشعبي، مهما اتسم بطابع مدني وسلمي، حتى ولو كان المحتجون بضعة مزارعين مسنين من رجال ونساء يحتجون على اقتلاع أشجار الزيتون أو مصادرة أراضيهم ومنعهم من الوصول إليها.
ومغزى ذلك أن العدو قد أغلق أمام الشعب الرازح تحت الاحتلال منذ 48 عاماً أي فرصة للدفاع عن نفسه وأرضه ووجوده الوطني بوسائل العمل الجماعي السلمي.
فكان أن جنح نفرٌ من الشبان والشابات إلى العنف إزاء الجنود والمستوطنين، فيما اكتفى رفاق لهم بالاحتجاج السلمي، لكن هؤلاء جميعاً تعرضوا معاً للقمع الدموي نفسه، وما زالوا يتعرضون له حتى كتابة هذه السطور على مرأى ومسمع من العالم كله، ومن دون أن ترتفع أصوات تدعو المحتلين لوقف تعدياتهم على الأقل ضد المسجد الأقصى وحيث لدور العبادة حرمتها لدى الوعي البشري في كل مكان.
ومما يثير الدهشة ومعها السخط أن موجة التطرف الديني التي تُعبّر عنها قطعان المستوطنين وأحزاب صهيونية عديدة لا تستوقف كثيرين في عالمنا، ولا تلاقي أصواتاً تحذيرية من مغبة الانزلاق إلى صراع ديني مكشوف وهو ما يمارسه ويجهر به المتطرفون الصهاينة وعلى رؤوس الأشهاد وفي واضحة النهار.
ومن الجلي الآن أن الهبّة الجديدة في سبيلها إلى الاتساع، حيث تتشكل مادتها البشرية من جيل جديد لم يسبق له بحكم السن أن شارك في انتفاضات جماهيرية سابقة، لكن هذا الجيل كبقية شرائح المجتمع الفلسطيني ذاق ويلات الاحتلال ومرارته، وتعرض لغطرسته، وناله الحرمان من حياة وطنية مستقلة كريمة وآمنة.
وها هي الأنباء تترى حول الإعلان عن «جبهة وطنية موحدة ميدانية في فلسطين التاريخية» تسعى لبلورة وتنظيم هذه الهبة، بعيداً عن الفصائل وخاصة حركتي حماس وفتح، وبمعزل عن سلطة غزة ورام الله، والراجح أن هذه الجبهة تسعى لإحياء تقاليد العمل الوطني الجبهوي (الجماعي) وبالذات الذي سبق وواكب الانتفاضة الأولى انتفاضة الحجارة في العام 1987.
ويسترعي الانتباه أن الجبهة الجديدة تطلق النفير من أجل العمل الوطني على اتساع فلسطين التاريخية التي تشمل أراضي ال48 المقامة عليها الدولة الصهيونية.
من المبكر الحكم على هذا الإطار واستخلاص مدى الفاعلية المعقودة عليه، غير أن الإعلان عن هذا الإطار في ظروف الغضب الشعبي وقمع المحتلين، يعكس مزاجاً سياسياً جديداً يروم إلى تجاوز الأطر القائمة وما ينتظمها من اتفاقيات وتفاهمات، بهدف التأسيس إلى واقع نضالي مستجد لا محل فيه لمزيد من المساومات والخسائر، ولا موضع فيه للحلول الجزئية والمؤقتة ولا التزامات مسبقة من أي نوع تقع على الطرف الرازح تحت الاحتلال.
قد يكون في هذا التطور قدرٌ كبير من الراديكالية، غير أن هذا لا يثير الدهشة أو الاستغراب على الأقل في مواجهة نزعة صهيونية تنحو أكثر فأكثر نحو جذرية استئصالية، ما يجعل رد الفعل مساوياً للفعل ومعاكساً له في الاتجاه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"