هكذا تنتهك براءة الطفولة

05:47 صباحا
قراءة 3 دقائق

من المعتاد أن تتعرض أي قضية إلى البحث والتقصي للتأكد من حقيقتها قبل أن تتحول إلى مثار جدال ونقاش على مستوى العالم، واليوم لا يستلزم هذا أكثر من فيديو ينتشر بسرعة الفيروس . وقد عرض مؤخراً على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لطفلة يمنيّة في الحادية عشرة من عمرها تدعى ندى الأهدل . وكان عدد المشاهدات التي فاقت سبعة ملايين، كفيلاً بأن يحول قصة الفتاة إلى قضية تناقلتها وسائل الإعلام العالمية مشرعة باب الجدال على مصراعيه .

في مقطع الفيديو تروي ندى بفصاحة تفوق سنها قصّة هروبها من منزل الرعب لدى والديها، وكيف لجأت إلى بيت عمّها بعد أن قررت والدتها تزويجها . وبكلمات أثارت العواطف سألت الصغيرة ماذا يحدث لبراءة الطفولة؟ قبل أن تضيف أنها تفضل الموت على أن تباع إلى رجل . . وأبدت ندى خشيتها على الفتيات الصغيرات مثلها، اللواتي تسلب منهن حياتهن .

ما أثار الدهشة أن الأسلوب الذي تحدثت به الطفلة - العروس حرك العالم، وكان أشد وقعا في النفوس من أي دراسات وإحصاءات عن تزويج القاصرات . وقد وجد الإعلام في الحكاية مادة دسمة تداولها عدد كبير من الناس، لكنه لم يرتكز على بند أساسي في مهنة الصحافة، ألا وهو التقصي عن الحقيقة! فقد تبين في حكاية ندى أن عمها الذي يعمل مصمم غرافيك في إحدى المحطات التلفزيونية قد أعد شريط الفيديو بمهارة وأن والدة الطفلة في الواقع لا تريد تزويجها على الإطلاق، وأن ندى لم تهرب من بيت والديها .

وهكذا صرف العالم أنظاره عن قصة تبين أنها ملفقة، وطوت وسائل الإعلام قصة العروس حفاظاً على ماء الوجه بعد ما تعرض الوالدان للذم والشتم والتقريع .

تراجع الحديث عن قصة ندى لكن آثارها ظلت . فإذا كان شريط الفيديو مزيفاً، وإذا كانت ندى ليست في الواقع عروساً، فإن هناك حقيقة دامغة تفيد، وفقاً لمنظمة الأمم المتحدة، بأن قرابة 52% من الفتيات اليمنيات اللاتي تقل أعمارهن عن ثمانية عشر عاماً متزوجات .

يذكر أن مجلس النواب اليمني كان قد ألغى من قانون الأحوال الشخصية في وقت مضى، المادة 15 التي تقضي بتحديد سن الزواج بخمسة عشر عاماً وما فوق . لكن ذلك لم يطبق في الواقع، إذ ليس للزواج في اليمن سن محددة، وقد أظهرت دراسة أجرتها جامعة صنعاء أن الفتاة تتزوج في بعض المناطق بمجرد بلوغها الثامنة من عمرها .

أمام هذه الإحصاءات المخيفة، أيهمّ أن يكون مقطع الفيديو الذي ظهرت فيه ندى ملفّقاً؟ وهل يمكن للعالم إذا اكتفى بنسيان قصة صغيرة لأنها كانت مزيفة، أن يغض النظر عن صورة اجتماعية أكبر؟

قد تكون قصّة ندى من نسج الخيال، لكنها تحدثت في الواقع عن جرائم موجودة في الواقع، ففي عام ،2008 صدمت قصّة الطفلة نجود علي ذات السنوات العشر العالم عندما توجهت إلى القاضي في المحكمة طالبة الطلاق .

سواء كانت كلمات ندى التي استدرت عطف العالم مرتبة أم لا، فإنها تعكس صورة واقعية في اليمن حيث يبيع الآباء بناتهم القاصرات لمن يدفع أكثر بسبب المعاناة من الفقر، وقد تفاقم هذا الوضع غير الإنساني لعدم وجود قوانين تردعه .

ليس في اليمن وحدها، يعتبر تزويج الأطفال أمراً طبيعياً، فكل البلدان التي أرهقتها السياسة والتي تعاني الفوضى السياسيّة المستمرة تعرف هذا النوع من الظلم . وتأتي كل من النيجر، أفغانستان وباكستان في طليعة البلدان من حيث ارتفاع نسبة تزويج الأطفال .

إنه وباء عالمي لابد من مقاومته، فقد تبين أن الأطفال الذين يجبرون على الزواج يتعرضون لكل أشكال العنف، كما يرتفع معدل الوفيات والولادة المبكرة لدى أغلبية الأمهات القاصرات . هذا إن لم نأخذ بعين الاعتبار ما تتعرض له العرائس الصغيرات من تأثيرات نفسية وشعور دائم بالعزلة .

من المتوقّع أن يتزوج خلال السنوات العشر المقبلة قرابة مئة مليون قاصر حول العالم، لذا لا بد من تطبيق قوانين حماية الطفل بشكل صارم وبذل جهود أكبر لتوعية الآباء وتأمين ملاذ آمن للصغيرات اللواتي لا يجدن مفراً من الهرب للتخلص من مستقبل مظلم وكئيب يفرض عليهن .

لم تكن ندى الأهدل عروسا في الواقع، وأتمنى ألا تصبح كذلك وهي في هذه السن، لكن صدى سؤالها الذي وجهته إلى العالم في شريط الفيديو ما زال يتردد في ذهني، ولابدّ من أن يتردّد كذلك في أذهانكم، فعندما نبيح ارتكاب مثل هذه الجرائم فإن سؤال ندى سيكون ما ذا يحدث لبراءة طفلة؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"