هل أصبح التسامح قيمة متلاشية؟

02:27 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عبدالعزيز المقالح

هذا سؤال قديم أطلقه منذ ربع قرن تقريباً شاعر فرنسي كبير. وكان حال هذه القيمة يومئذ ما يزال أحسن مما هو عليه الآن، ولم تقترب كما اقتربت الآن من درجة الصفر بعد أن أصبح الناس إلاَّ القليل منهم كُتلاً مصمتة تحركها الكراهية والبغضاء. ولا أدري إن كان الشاعر صاحب هذا السؤال ما يزال يعيش بيننا أم طواه الموت، ولا كيف سيكون سؤاله الجديد أو ما الذي سوف يضيفه إلى سؤاله القديم بعد أن تدهورت أوضاع البشر وتدهورت معها علاقتهم بالقيم بما فيها قيمة التسامح، وأثبتت الحال أنه كلما تقدمت البشرية في مضمار الزمن زاد تحللها وبعدها عن المشاعر الهادفة إلى الوئام والتعايش الإنساني بما يضمن للجميع الأمن والاستقرار والاقتدار على مواجهة الحياة، وما يعتورها من مشكلات وأعباء. والملاحظ أن هذا التراجع يزيد في ظروف الحروب والانكسارات. وما يحدث الآن في أكثر من مكان على وجه هذه الأرض يكاد يقود البشرية سريعاً نحو درجة الصفر أخلاقياً وسلوكياً ويعود بها إلى ما كان يسمى بمرحلة الغاب وعلاقاتها المتوحشة.
تحتفظ ذاكرتي حتى الآن بواحدة من الحكم الإنسانية المتلاشية عن التسامح في الحياة وهي عن الصُحبة أو الزمالة التي لن تستقر وتدوم إلاَّ إذا كان ثلثاها التسامح، وهي تشير من قريب إلى معنى التعايش مع الآخر الذي لا يمكن أن يقوم أو يدوم إلاَّ في حضور هذه القيمة، وإذا لم يغض كل شخص النظر عن الأخطاء التي لا يكاد ينجو عن الوقوع فيها إنسان مهما تسامت تصرفاته وتوازن في مواقفه. ولا مكان للشك في القول بأن تسامح الأفراد يعكس نفسه ويتحول إلى تسامح عام ومنه إلى تسامح بين الشعوب مهما كان بينها من الاختلافات والخلافات. ومن يراجع راهن الخلافات القائمة بين أقطارنا من جهة وبين بعض الشعوب الأخرى يجد كم هي طفيفة ولا تؤدي إلى التقاطع والاحتراب.
ولعل أسوأ تلك الخلافات هي تلك التي تقوم بين الشعوب المتجاورة لأسباب غاية في التفاهة وبؤس الشأن كتلك التي تقوم بعد مباراة كرة القدم وما تحركه في النفوس الصغيرة والجاهلية من مشاعر العداء واجترار الضغينة علماً بأن الألعاب هواية وليست هوية ومهمتها تقتصر على ترويض النفوس على تقبل النتائج بمحبة وودّ.
ويبدو للباحث المدقّق في الأوضاع الراهنة أن الواقع بتفاصيله الدقيقة وتناقضاته المريعة يعود إلى اختفاء قيمة التسامح وتلاشيها من المجتمعات بما فيها تلك التي توصف بالمتقدمة والحضارية، فالتقدم والتحضر قيمتان أخلاقيتان قبل أن تكونا عنواناً للمظاهر الخارجية، وأي تطور في الحياة دون ضوابط أو روادع أخلاقية مصيره إلى الزوال، وهذا ما بدأت تشعر به بعض الشعوب التي حققت نجاحاً كبيراً في بناء المصانع والثروات ولم يرافق ذلك البناء قدر مماثل من البناء الروحي والأخلاقي، وكيف بدأت الخلافات الناشبة عن ذلك الغياب تدبّ في مفاصل المكونات الأساسية لهذه الشعوب، وما العنصرية وغيرها من الانتماءات المدمّرة للتعايش إلاّ التعبير الأسوأ لغياب القيمة الكبرى في الحياة وهي قيمة التسامح والشعور المشترك بأهمية التضامن في مواجهة كل ما من شأنه أن يشوه وجه الحياة ولا يساعد الإنسان على البقاء.
والآن وقد بلغ التنافر والخصام حداً غير مسبوق ليس في وطننا العربي وعالمنا الإسلامي فحسب، بل في العالم أجمع سيما بعد خروج عفريت الطائفية الدينية والعرقية من القمقم، فإن النجاة - كل النجاة - تكمن في التسامح هذا الدواء الذي ضمن للبشرية بالأمس واليوم وسيضمن لها غداً القدر المطلوب من التعايش والإحساس بالأمان والأخوة الإنسانية تلك التي تؤكد وحدة البشرية بوصفها أمة واحدة اقتضت مشيئة خالقها أن تكون شعوباً وقبائل لتتعارف لا لكي تتناحر وتقود هذا الوجود الجميل إلى الهلاك.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"