هل أوضاع أمريكا اللاتينية أفضل من أوضاعنا؟

02:04 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. لويس حبيقة

تمر قارة أمريكا اللاتينية بأوضاع صعبة نتيجة سقوط أسعار المواد الأولية كما نتيجة سوء إدارة الدول الناتج أصلا عن تمدد الفساد وصولا إلى القطاع الخاص. محاكمة المسؤولين موضوع مهم، آخره استجواب الرئيس البرازيلي «لولا دا سيلفا» المعروف بنزاهته. أمريكا اللاتينية تعتبر معقل التمرد أو الثورات، ليس فقط عبر كوبا و«كاسترو» ومع «تشي غيفارا»، وإنما عبر العديد من الدول كتشيلي التي أنتجت حكومات متطرفة تحدت الجار الأكبر الشمالي. عودتنا الاقتصادات الأمريكية اللاتينية منذ الستينات وما قبل على التقلب الكبير بين النمو والركود مما يشير إلى دقة أوضاعها وضعف مؤسساتها وتأثرها الكبير بالخارج. عودتنا على التقلب في السياسات الاقتصادية من الحمايات الشاملة في الماضي إلى التحرر والانفتاح والخصخصة والاتفاقيات التجارية الإقليمية والدولية فيما بعد.
عانت الاقتصادات من الديون الخارجية التي أطاحت بحكومات كما بمصارف مقرضة. من المكسيك إلى تشيلي، تعاني الاقتصادات اليوم من ضعف النمو وسوء توزيعه بين الناس. بعد فترة ازدهار اقتصادي واجتماعي دامت من سنة 2004 إلى سنة 2013، سقطت قيمة صادرات المواد الأولية 14% السنة الماضية، كما سقط مجموع الصادرات 21%. من المتوقع أن تكون هذه السنة استمراراً للسنتين الماضيتين، وبالتالي لن ينمو الاقتصاد الأمريكي اللاتيني أكثر من 0.6%. فالتكلم عن القارة كمجموعة لا يفي بحق الدول الكبيرة المؤثرة دولياً.
تمر البرازيل اليوم بفترة ركود صعبة بعد سنوات من الازدهار. بعد نمو قارب 2,5% سنة 2013، حقق الاقتصاد نموا سلبيا قدره 3.8% في سنة 2015 علماً أن التوقعات ل2016 ليست مشجعة، بالرغم من الاستثمارات الكبيرة المرتبطة بالألعاب الأولمبية الصيفية. هنالك من يشتكي في البرازيل من سوء الإنفاق على التحضيرات للألعاب ويشيرون إلى فساد كبير. هنالك من يقول أيضاً كان من الأفضل للبرازيل التي تعاني من نسب فقر مرتفعة وفجوات ضخمة في الدخل والثروة بين الفقراء والأغنياء أن تنفق هذه الأرقام الكبيرة على معالجة المشاكل الاجتماعية والبنية التحتية. هنالك من يقول أيضاً إن معظم الاستثمارات المرتبطة بالألعاب الرياضية يحصل في مدينة «الريو» ولن تستفيد منها البلاد ككل. أما وصول الفيروس «زيكا»، فقد أرهق الاقتصاد والنفوس ومن الممكن أن يدفع بالعديد من الرياضيين إلى إلغاء زياراتهم للبرازيل. انعكس هذا الجو التشاؤمي على التقييم العام للاقتصاد من قبل مؤسسات التصنيف مثل«فيتش». تعاني البرازيل من عجز كبير في ميزان الحساب الجاري بلغ 91 مليار دولار سنة 2014 و74 مليار دولار سنة 2015. بلغ الناتج المحلي الفردي 16 ألف دولار مما يضع البرازيل في قلب الدول الناشئة.
هنالك اقتصادات كبيرة أخرى تؤثر على الوضع الأمريكي اللاتيني كالمكسيك التي قارب نموها 4% في سنتي 2011 و2012 لينحدر إلى 2% في السنوات التالية. بلغ الناتج الفردي 18 ألف دولار أي ربع الجار الأمريكي، بالرغم من العلاقات التجارية والمالية الكبيرة بينهما. للمكسيك قاعدة صناعية حديثة تتكل على بنية تحتية جديدة، إلا أن الانطباع العالمي بالنسبة لها هو سلبي وعكس الحقيقة وهذه هي مهمة الإدارة الجديدة لتصحيحها. السياحة هي قلب الاقتصاد المكسيكي الذي ينعم بالركائز المهمة لها في الشاطئ وعلى الجبال. تطورت المدن الكبيرة كالعاصمة ربما على حساب القرى والريف، لكن هذا ليس هو حال المكسيك فقط وإنما حال معظم الدول. للمكسيك قدرة كبيرة على التحول إلى اقتصاد أكبر وأفضل إذا أحسن السياسيون إدارة الدولة، منه ضرب الاقتصاد غير الشرعي وإدخال ما هو شرعي وغير مسجل إلى الاقتصاد الرسمي. يظهر أن الرئيس الجديد جدي وهنالك ثقة تبنى بينه وبين شعبه.
أما الدولة الأخرى الكبيرة فهي الأرجنتين التي تعتبر دولة أوروبية في أمريكا اللاتينية. بعد نمو بلغ 8.7% سنة 2007 وصل إلى نصف في المئة سنة 2014 وإلى متوقع سلبي قدره 0.7% هذه السنة. نسبة التضخم ما زالت مرتفعة وفي حدود 10%، وهنالك دور كبير على المصرف المركزي القيام به. أرقام ميزان الحساب الجاري جيدة أي فائض بلغ 3% من الناتج. عجز الموازنة معتدل وفي حدود 3% من الناتج مما يشير إلى ضبط مقبول للإنفاق. تعاني الأرجنتين من ديون خارجية قديمة أرهقت نقدها وأساءت إلى علاقاتها الدولية مع صندوق النقد والمصارف. أما الاتفاق الذي حصل منذ أسابيع مع الصناديق التي أقرضت الدولة، فلابد أن يسمح للإدارة الجديدة بتحسين قيادتها بعد سنوات من سوء الرؤية والممارسة. المعروف عن الرئيس الجديد قربه من قطاع الأعمال، وبالتالي من المتوقع أن تعود الاستثمارات إلى سابق عهدها أي 25% من الناتج ارتفاعاً من 20% اليوم.
لا يمكن اختصار أمريكا اللاتينية في الدول التي ذكرنا. فالتشيلي ذات الجغرافيا المميزة تعتمد أيضاً على المواد الأولية. سقط النمو من 6% في سنة 2011 إلى 2% بدأ من سنة 2014. إن إدارة السيدة «باشليه» تسهم في تحسين الأداء الاقتصادي. معظم المؤشرات متوازن، وليس هنالك أي أرقام مقلقة، علماً أن الناتج الفردي هو 23 ألف دولار أي يضع التشيلي في مصاف الدول المتقدمة. أما فنزويلا فمشكلتها واضحة وتتلخص في سوء الأداء السياسي. فالمواجهة بين الحكومة وقطاع الأعمال سببت نمواً سلبياً مقلقاً في حدود 10% في دولة غنية بالنفط يقارب ناتجها الفردي 17 ألف دولار. هنالك ضوء جديد متعلق بكوبا، حيث تحسنت العلاقات بشكل كبير ومفيد مع الولايات المتحدة، ولا بد من أن تؤثر زيارة الرئيس أوباما إيجاباً على الأوضاع الاقتصادية للجزيرة وعلى العلاقات في القارة، كما على حياة كل الكوبيين.
أخيراً، ما أهم أوجه التشابه بين أمريكا اللاتينية ومنطقتنا؟ الاعتماد على المواد الأولية للنهوض. لا بد من تنويع الإنتاج وبالتالي الصادرات تخفيفاً للمخاطر. إن ضعف الإدارة العامة وما ينتج عنه من سوء إنفاق وفساد وتوزيع غير عادل للموارد بين طبقات الشعب هو مشترك. بالرغم من أوجه التشابه السلبية، لا شك أن القارة الأمريكية اللاتينية تتقدم علينا كثيراً في الاقتصاد والشفافية والديمقراطية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"