هل تنتج الديمقراطية النمو؟

00:59 صباحا
قراءة 5 دقائق
د.لويس حبيقة

أكبر دولة ديمقراطية في العالم هي الهند، حيث ينتخب المسؤولون بحرية ونظام مدهشين. دولة علمانية تتوزع خلالها المسؤوليات عبر الاختيار الشعبي المبني على الأحزاب المختلطة في العرق والدين والجغرافيا. حققت الهند نمواً قوياً خاصة في الفترات الأخيرة، حيث وصلت النسبة السنوية إلى 7,6% في العقد الأول من هذا القرن. وحقق الناتج الفردي نمواً سنوياً بلغ 6% في الفترة نفسها بالرغم من الارتفاع السكاني الكبير. ليس المهم مستوى نسبة النمو السنوية فقط، وإنما ارتفاعها من فترات إلى أخرى بالرغم من تأثير الأزمات العالمية والتحديات الداخلية. فقد ارتفعت نسبة النمو السنوية في الهند مثلاً من 0,9% حتى خمسينات القرن الماضي إلى 3,4% في الستينات، إلى 5,9% في العقد الأخير من القرن الماضي، وإلى 7,6% لاحقاً كما ذكرنا. وانتقل نمو الناتج الفردي السنوي، وهو الأهم كمؤشر لمستوى الحياة، في الفترات المذكورة سابقاً من 0,1% إلى 1,2% إلى 4% وإلى 6% مؤخراً.

وبين سنتي 1951 و2011، ارتفع الناتج المحلي الهندي 18 مرة، والفردي 5 مرات، وارتفع العمر المرتقب من 32 سنة إلى 66 سنة. وانخفض مؤشر الخصوبة من 6 إلى 2,5 ولد لكل امرأة نتيجة الوعي والتعليم والتربية والحريات السياسية والإعلامية والإعلانية. تطور القرار الفردي والعائلي من ناحية تحديد النسل لهدف تحسين مستوى المعيشة. وانخفضت مستويات الأمية، وبالتالي ارتفعت نسبة المتعلمين ما أثر إيجاباً في مستوى الفقر في المدن والأرياف. وتعتبر الهند أكبر منتج للدواء المنسوخ في العالم، مما يؤثر إيجاباً في الأسعار لمصلحة الفقراء. كما أن جميع المؤشرات المادية تحسنت كنسبة الأسر التي تملك أبرز وأهم السلع الاستهلاكية والمنزلية والترفيهية وغيرها. هذا لا يعني أن المجتمع الهندي نموذجي، بل هنالك العديد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى كالفقر التي تحتاج إلى معالجات في العمق، وليس إلى تعديل في السياسات المعتمدة فقط. تقدمت الهند كثيراً لكنها ما زالت تحتاج إلى الكثير أيضاً.
ما هي الأسباب الرئيسية التي سمحت للهند بتطوير بنيتها الاقتصادية والإنسانية خلال عقود قليلة نسبياً؟
أولاً: حصل الاستقلال في سنة 1947 وقسمت الهند إلى دولتين، أي سحبت باكستان منها لأسباب دينية. في السياسة، ربما شكلت خسارة باكستان للهند نكسة كبيرة، إلا أنه ربما سمح للمجتمع الهندي بأن يكون متجانساً أكثر بالرغم من التنوع الكبير الذي ما زال حاصلاً. استمرار العلاقات المتشنجة بين الدولتين يؤخرهما ويعرقل عملية التنمية التي لا تتوقف على النمو فقط، وإنما على تقدم جميع المؤشرات الإنسانية والاجتماعية والمادية وغيرها أيضاً.

ثانياً: في 1991، استلم «سينغ» وزارة المالية فوعد خلال مناقشة الموازنة بأن الاقتصاد الهندي سيتحول من الاشتراكية الاقتصادية إلى الرأسمالية المبنية على حرية المبادرة والاستثمار والأسواق. وفي الحقيقة، كان الخيار واقعياً لنقل الهند إلى مستويات أفضل. فسقوط الاتحاد السوفييتي والفضائح السياسية والإدارية، كما اغتيال «راجيف غاندي» إضافة إلى التعثر الاقتصادي، ساهمت كلها في فرض التغيير نحو الحرية والمنافسة. تعثر الإنتاج كما الصادرات، وبالتالي لم تعد الهند قادرة على دفع فاتورة الاستيراد. وانخفض الاحتياطي النقدي في منتصف 1991 إلى 500 مليون دولار وهو ما لا يكفي لشراء 3 أسابيع من الاستيراد الضروري، علماً بأن مؤشر السلامة الدولي يوصي ب4 أشهر احتياط. فاضطرت الهند لاقتراض ملياري دولار من صندوق النقد الدولي لتجنب الفوضى.
ثالثاً: يقول الاقتصادي «دافيد لانديس» إن التاريخ الاقتصادي يشير إلى حصول المنافسة الدائمة بين الدول للفوز بالثروة. وللفوز في المنافسة لابد من تحضير الشعوب وتحديث الاقتصاد للحصول على أفضل النتائج. وفي الدول التي لم تستطع النجاح اقتصادياً، لابد من دراسة العوائق التي تكون إجمالاً قانونية أو إدارية أو مؤسساتية. وعندما تعالج هذه العوائق من قبل السلطات التشريعية والتنفيذية، تتحقق الاستثمارات وتأتي رؤوس الأموال وبالتالي يحصل النمو القوي بسرعة. هكذا فعلت الهند عندما انتقلت من نظام اقتصادي إلى آخر.
رابعاً: تحتوي الهند على يد عاملة كثيرة بسبب العدد السكاني الضخم. لكن النمو يفرض وجود رأس مال تقني. لا يمكن التركيز على اليد العاملة حتى إذا كانت متوافرة بكثرة. فالنمو الاقتصادي يفرض وجود يد عاملة نوعية ومتعلمة، والعدد بحد ذاته لا يحل المشكلة. يقول الاقتصادي «مايكل سبينس» إنه في الخمسينات، كان الوضع الاقتصادي الإفريقي أفضل من الآسيوي لأن القارة السوداء غنية بالمواد الأولية، بينما تفتقر إليها آسيا. ماذا حصل؟ «الحاجة أم الاختراع» إذ تفوقت آسيا بسبب العامل الإنساني الذي اعتمد ليس على القدرات الذاتية والوطنية فقط، بل على الاقتصاد الدولي عبر تواصله معه في الصادرات والاستيراد ورؤوس الأموال وانتقال التكنولوجيا. حكمت دول آسيا نفسها عموماً بشكل أفضل بكثير مما فعلته إفريقيا.
إذاً، اعتمد النظام الاقتصادي الهندي الحديث على الديمقراطية والانفتاح الاقتصادي وحسن إدارة دولة كبيرة، فاعتمدت السياسات المناسبة وتم الاستثمار في البنية التحتية تحضيراً لنزوح أكبر وحتمي نحو المدن. وتشير الدراسات إلى أن 400 مليون هندي سينتقلون في العقود القليلة المقبلة من الريف إلى المدن مقارنة ب300 مليون في الصين. حالياً ثلثا الشعب الهندي يعيش في الريف لكن التحول الحاصل سيجعل الأكثرية تعيش قريباً في المدن. وتنمو الهند سكانياً بنسبة سنوية قدرها 1,4% مقارنة ب 0,6% للصين، ما يعني أن عدد سكان الهند سيفوق العدد الصيني قبل سنة 2022. وتعتبر «دلهي» ثاني أكبر مدينة مكتظة بالسكان بعد طوكيو، وستصبح الأولى قبل سنة 2030 مع التحول السكاني الحالي وما ينتج عنه من تلوث ومشكلات في النقل والخدمات والمجتمع والإدارة المدنية العامة.

اعتمدت الهند أكثر من غيرها، خاصة أكثر من الصين، على قطاع الخدمات فاستفادت من التطور التكنولوجي العالمي الكبير في هذا القطاع. صدرت الهند التكنولوجيا ليس في السلع فقط، وإنما أيضاً في الخبرات الإنسانية النوعية. يقول الاقتصادي «ادمون فيلبس» إن الاقتصاد المعاصر هو المرن والمعتمد على التجدد والبحث والابتكار كي ينتج السلع والخدمات الضرورية للمواطن. ويركز «فيلبس» على دور الثقافة والمؤسسات في التنمية وعلى أهمية التحديات المرتكزة على الرغبة في التقدم والاكتشاف كما الخلق. الاقتصاد الناجح هو المرتكز على المواطن الطموح الذي يسعى دائماً إلى تحسين أوضاعه المعيشية عبر الفكر والعمل والجهد الاقتصادي اليومي. وما زالت الهند فقيرة وكي تتحسن الأوضاع، لابد من رفع إنتاجية العامل وإنتاج فرص عمل كبيرة وجديدة منعاً لحصول البطالة.

أخيراً، يقول الاقتصادي «جاديش باغواتي» إن الهند ستتفوق على الصين قريباً. النموذج «القمعي» الصيني سيفشل في رأيه وستنتصر الديمقراطية الهندية. ولن تستطيع الصين منع الحريات عن مواطنيها وعندما تبدأ المطالبة الشعبية بها، سيخف النمو الاقتصادي وهذا ما بدأ يحصل اليوم. يعتمد النمو الصيني على الأسواق الخارجية المتعثرة اليوم بسبب الأزمة المالية العالمية خاصة في أوروبا. كما أن سياسة الولد الواحد وعدم تحديث البنية التحتية، سيدفعان بالإنتاجية الصينية إلى الأسفل والأجور إلى الارتفاع، علماً بأن الإنسان يبقى في كل الحالات ركيزة النمو النوعي. ولا ينكر «باغواتي» ضرورة استمرار الهند في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والإدارية والمؤسساتية التي تبقى أساسية في كل الحالات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"