هل يضحّي «ترامب» بحلفاء أمريكا؟

02:15 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.إدريس لكريني

منذ وصوله إلى رأس السلطة داخل البيت الأبيض؛ والرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» يخلق الجدل بقراراته المثيرة وغير المسبوقة ضمن التوجهات الخارجية لأمريكا، بصدد عدد من الملفات والقضايا الحيوية، كالتسلّح والبيئة والهجرة والتعاون الاقتصادي والإرهاب الدولي.حقيقة إن الممارسات الدولية للولايات المتحدة منذ بدايات القرن العشرين، حافلة بالمحطات والأحداث الكبرى التي تبرز توجه هذه الأخيرة نحو فرض قطبيتها كطرف دولي وازن، على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي.
فعلى عكس الانتصار الرمزي للحلفاء في الحرب العالمية الثانية، كان انتصار أمريكا حقيقياً مكّنها من بسط هيمنتها العسكرية على أوروبا ونشر قواعدها في عدد من مناطق العالم، كما استطاعت في أعقاب ذلك أن تفرض منطقها الاقتصادي عبر فرض عملتها عالمياً وبناء نظام اقتصادي تدعمه العديد من المؤسسات التي تلعب فيها أدواراً وازنة.
ومنذ ذلك الحين وهي تتزعم القطب الرأسمالي في مواجهة المدّ الاشتراكي الذي كان يقوده الاتحاد السوفييتي (سابقاً)، حيث اتخذ الصراع مظاهر مختلفة كلّفت الطرفين ودول العالم والسلم والأمن الدولي الكثير، وبخاصة وأن الحرب الباردة التي سادت لنحو نصف قرن شهدت سباقاً مرعباً نحو التسلح،ظلّت الولايات المتحدة تمزج بين سياستي الترهيب تارة والترغيب تارة أخرى في إمالة حلفائها، فقد استطاعت أن تعيد أوروبا المدمرة في أعقاب الحرب العالمية الثانية عبر مشروع «مارشال»، كما كان لها دور أساسي وقيادي في بناء حلف شمال الأطلسي (الناتو) كدرع عسكري في مواجهة المجموعة الاشتراكية بقيادة السوفييت التي أحدثت بدورها حلف واسو لاحقا، لنفس الغرض، فيما استخدمت آلية المساعدات المالية والتقنية والعسكرية في كسب أصدقاء وحلفاء جدد.
ورغم المحطات التاريخية التي شهدت فيها العلاقات بين القطبين بعضاً من التواصل والانفراج في أعقاب أزمات خطيرة ومعقدة، كما هو الأمر بالنسبة لأزمة كوبا في بدايات الستينيات من القرن الماضي، إلا أن كلفة الحرب الباردة كانت ضخمة على مختلف المستويات.ورغم نهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين كأحد رموزها، استمرت الولايات المتحدة في دعم حلفائها التاريخيين، مسخرة في ذلك إمكانياتها العسكرية والدبلوماسية، أو من داخل مجلس الأمن ومختلف المؤسسات الاقتصادية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فيما سعت بمعية عدد من الدول داخل حلف الأطلسي إلى تكييف مهامه العسكرية والأمنية مع المتغيرات الدولية الجديدة، ليركز على قضايا الإرهاب والانتشار النووي والتهديدات البيئية.. فيما استمر التنسيق الدبلوماسي بين الولايات المتحدة وحلفائها داخل أوروبا ودول أخرى ظلّت على علاقة متينة مع الغرب إجمالاً، بل انضمت الكثير من هذه الدول إلى جانب الولايات المتحدة في التبشير بنظام دولي جديد منذ بداية التسعينات، بما يعنيه ذلك من إقرار بالأحادية القطبية الأمريكية في عالم متحوّل.. وظلت هناك دائماً ثوابت تميّز السياسة الخارجية لهذا البلد، وبخاصة تلك المتصلة بالدول الحليفة والصديقة، مع وجود بعض الاختلاف على مستوى الأسلوب الذي يميّز التعاطي مع هذه القضايا..
منذ وصوله إلى البيت الأبيض اتخذ «ترامب» قرارات صارمة أحدثت جدلاً داخلياً وآخر دولياً بصدد مستقبل علاقة الولايات المتحدة مع محيطها الدولي، والغريب في الأمر أن تداعيات هذه القرارات لم تتوقف سلبياتها على بعض الدول الصديقة، بل طالت أيضاً عدداً من الدول الغربية التي تجمعها علاقات تاريخية عريقة ومصالح حيوية.. بدأت ملامح هذه التوجهات مع إصرار الإدارة الأمريكية الجديدة على ترشيد نفقاتها داخل حلف شمال الأطلسي، ودعوة أعضائه إلى تحمّل نصيب أوفر من النفقات المتزايدة في هذا السياق، حيث ادعى «ترامب» غير ما مرة أن الولايات المتحدة الأمريكية تتحمّل لوحدها زهاء 91 في المئة من تكلفة أمن أوروبا، بما يجعل الحلف مفيداً لأوروبا أكثر منه لأمريكا، ثمّ فرضها لرسوم جمركية عالية على الحديد والألمنيوم المستورد من أوروبا وكندا والمكسيك، والترحيب بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، واتخاذ قرار يقضي بتحويل السفارة الأمريكية من «تل أبيب» نحو القدس، ثم الانسحاب الأمريكي من الإعلان الختامي لقمة الدول الصناعية السبع المنعقدة في مدينة «كيبيك» بكندا، واتهام ألمانيا التي تربطها علاقات تجارية واقتصادية مهمة مع روسيا بالتبعية لهذه الأخيرة..
يؤكد الباحثون والخبراء أن العلاقات الدولية لا تحتمل صداقات أو عداوات دائمة، بقدر ما تنطوي على المصالح في أبعادها الاستراتيجية، غير أن التحوّل الفجائي في السياسة الأمريكية يطرح أكثر من سؤال بصدد تقديرات وتقييم «ترامب» لقراراته ومآلاتها بالنسبة للعلاقات مع عدد من الدول الغربية ولمستقبل القطبية الأمريكية بشكل عام.
إن التحوّل الكبير الذي طال السياسة الخارجية لأمريكا في الآونة الأخيرة؛ وبالنظر إلى الوزن والحضور الدوليين لهذا القطب، يجعلنا نقف أمام قراءتين مختلفتين، الأولى، أن الأمر يتعلق بقرارات عشوائية غير محسوبة بصورة استراتيجية، رغم أنها بنيت على مقاربات براغماتية لرجل خبر الاستثمار والمقاولات، بالنظر إلى كونها تحطم علاقات وتحالفات بذلت الولايات المتحدة نفسها مجهودات كبيرة، ورصدت لها إمكانات مالية واقتصادية هائلة على امتداد عقود،أما الثانية، وبالنظر إلى طبيعة اتخاذ القرارات في أمريكا، حيث يتداخل ما هو رسمي مع ما هو غير رسمي، وبالنظر إلى استحضار مخرجات مراكز البحث العلمي في هذا السياق، فإن الأمر يستدعي تغييرات محسوبة تنبئ بتوازنات وتحالفات جديدة تجسد المصلحة الأمريكية في بعدها المتطور والاستراتيجي.. وتبقى الكلمة الفصل في هذا السياق للمستقبل، فهو الكفيل بتأكيد هذه الفرضية أو تلك.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"