هويتنا إلى أين؟

03:26 صباحا
قراءة 4 دقائق

حينما تتحاور أو تتجاور حضارتان متساويتان في العراقة التاريخية، والأصالة الثقافية، وتنتشران على بقاع متقاربة في الاتساع، وينتمي اليهما شعبان متماثلان في العدد فلا خوف من حضارة على أخرى، ولا داعي للحذر والحرج من أن تفتح الأبواب على مصاريعها لإحداهما على الأخرى، بل يحسن بسدنة الأبواب أن يفتحوها ليفيدوا ويستفيدوا، ويجددوا ويتجددوا.

وحينما قال أحد زعماء الهند العظام: انني سأفتح نوافذ بيتي لتدخلها الرياح من كل جانب، فتجدد هواءها شريطة ألا تقتلعني من جذوري، لم يكن إعصار تسونامي الذي يسمى زوراً وبهتاناً باسم العولمة، قد هبّ من الغرب على الشرق بمثل هذه القوة المدمرة، ولو أنه كان حياً اليوم لأغلق النوافذ كلها أو جلها، ولم يفتح غير النوافذ التي تأتيه بالهواء النقي.

أما حينما تتحاور حضارتان متساويتان في البنية الثقافية متفاوتتان في القوة العسكرية، وفي القدرة العلمية، وفي الخبرة الصناعية، فعندئذ ينقلب الحوار الى صراع، ويفضي الصراع الى ابتلاع، والأقوى يبتلع الأضعف، وكما ابتلع الأوروبيون المهاجرون الى أمريكا هنودها الحمر، وكما ابتلع أوشاب الأرض المهاجرون الى فلسطين ثلاثة ارباعها، ويهمّون بابتلاع الربع الباقي بقوتهم العسكرية لا بثقافتهم القومية، فإن غزاة الغرب عسكرياً كما يجري في العراق، وثقافياً كما يجري في الخليج العربي، يصارعون ويبلعون، ولا يحاورون ويحضّرون.

ولما كانت دول الخليج العربي، والإمارات واحدة منها، عاجزة عن منافسة الغزو الحضاري الغربي في السلاح وفي الاقتصاد وفي الصناعة، فإن القلعة الوحيدة الباقية التي تعتصم بها هي الهوية العربية بكل أبعادها ومعانيها وقيمها، هوية الدم، وهوية اللغة، وهوية الثقافة، وهوية الانتماء، وهوية الأرض، وهوية التاريخ. أما هوية الدم والانتماء والتاريخ فالمسؤول عن حمايتها من في أيديهم الحفاظ على التركيبة السكانية.

وأما هوية الثقافة فالمسؤول عنها من في أيديهم وزارات التعليم والإعلام. وأما هوية اللغة، وهي الأهم في نظري لأنها الوعاء الذي يستوعب كل الهويات، فإن المسؤولية فيها لا تقع على وزارة أو إدارة وحسب، وعلى منظمة أو هيئة فقط، وانما تقع على كل الإماراتيين، وكل من يثبت أنه مؤمن بعروبة هذه الدولة، ولو لم يكن عربي الدم والوجه واللسان.

قد يقال: إن العربية أصبحت متخلفة عن ركب الحضارة. والحق أن العرب هم الذين أصبحوا متخلفين عن هذا الركب، ولو كانت متخلفة لما جعلت لغة التعليم العالي في اكثر من قطر عربي قبل بضع وتسعين سنة، ومازالت اللغة التي تعلَّمُ بها كل العلوم الحديثة حتى اليوم.

وقد يقال: إن الدوائر الرسمية والشركات والمؤسسات التجارية والمستشفيات والمراكز الصحية، لا تضم إلا نسبة ضئيلة ممن يتقنون العربية فكيف نطلب منهم أن يستعملوا لغة لا يعرفونها؟ والجواب ليس في مطالبة هؤلاء، وإنما بمطالبة من أتى بهم وملأ بهم الدوائر والشركات والمؤسسات والمستشفيات والمراكز، ولم يأت بمن يتقنون العربية كما يتقنون الانجليزية، وهم آلاف مؤلفة تخرجوا في أمريكا وأوروبا، وتفوقوا على أهل البلد التي درسوا فيها.

إن من يدافعون عن الموظفين الذين لا يحسنون غير الانجليزية يصرون على المضي في تخريب الهوية العربية، فبدلاً من أن يأتوا بخبراء يتقنون اللغة العربية ويحسنون التفاهم مع أبناء البلد، يستوردون الذين لا يحسنون لغة البلد ليفسدوا ثقافته ويمسخوا هويته، ويبقوه تابعاً للثقافة الأجنبية.

قبل ألف وثلاثمائة سنة حذر نصر بن سيار الأمويين من وميض في رماد فقال:

أرى خلل الرماد وميض نار

ويوشك أن يكون لها ضرام

فلم يصدقه الأميون، فطاروا وطارت بدولتهم الرياح، واليوم يطلع علينا كُتَّابٌ ومفكرون يزعمون أن لا خطر على العروبة بشراً وثقافة ولغة من الذوبان، ففيم يتباكى المتباكون على أنفسهم، وهم ولله الحمد، في نعمة يحسدها عليهم أهل الأرض؟ أقول: إن هذه النعمة هي القصعة التي تتحلق حولها المطامع من كل حدب وصوب، وتحمل من يشاركون في التزود منها على أن يعصبوا عيون العرب لئلا ترى الخطر المحدق بهم من كل جانب، فيسهل ابتلاعها وابتلاعهم، واقتلاعها واقتلاعهم، لا قدّر الله.

نعم لقد أصبحنا خائفين على وجودنا أقلية على تراب وطننا، وهذا ليس من باب التهويل كما يتوهم المتوهمون، بل هو الواقع المعيش، الذي ينطبق عليه القول المأثور:

وليس يصحُ في الأفهام شيء

إذا احتاج النهار الى دليل

والمضحك المبكي في آن، أن الإسرائيلي المدجج بأحدث الأسلحة وأكثرها فتكاً، القادر على إلحاق الهزيمة بجيوش جرارة، يتخوف من القلة الباقية من عرب ،1948 وهي قلة مستضعفة بل ضعيفة، ولا يرى غضاضة في طردها خارج حدود كيانه المصطنع، وفي فرنسا حيث يربو عدد السكان على سبعين مليون نسمة يتوجسون خيفة من الأقلية العربية المسلمة وجلّها من العمال، وهم، أي الفرنسيون، ينادون بخفض عددها عن طريق سن القوانين الصارمة المتعلقة بالهجرة والعمل واكتساب الجنسية الفرنسية... إلخ.

أما نحن فعلينا التزام السكون والسكينة، والاطمئنان والطمأنينة، إذ لا خوف علينا كما بشَّر بذلك من بشَّر، حقاً إن: (الوطنية شعور ينمو في النفس، ويزداد لهبه في القلوب كلما كثرت هموم الوطن، وعظمت مصائبه).

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"