هيكل (بصراحة)

03:42 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي
كنت في زيارة أخيرة لمبنى مؤسسة الأهرام ورأيت أن أمر على مركز الأهرام للنشر للقاء صديقي الأستاذ محمد الشاذلي مدير المركز، وسعدت كثيرا بالإنتاج المنشور كماً وكيفاً، كما أسعدني أكثر إصدار المركز سلسلة دورية قد تصل إلى سبعة أجزاء تتضمن مقالات الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل من منتصف خمسينات القرن الماضي حتى عام 1974 وهو العام الذي ترك فيه هيكل الأهرام بعد خلافه مع الرئيس الراحل أنور السادات وكانت تحمل عنواناً دائماً (بصراحة) خصوصاً وأن جيلي وجيلا سبقه وآخر تلاه قد نهلوا من ذلك المقال الإسبوعي جزءاً من المكون التاريخي لثقافتهم السياسية.
وقد كان الكاتب الراحل شعاع الضوء الوحيد الذي يطرح الأفكار التي لا يجرؤ عليها غيره ويسرب من المعلومات ما ليس متاحاً لسواه، وقد لاحظت أن صورة الكاتب الراحل موضوعة على الغلاف واقترحت على الكاتب الصحفي مدير المركز أن تتبدل صورة هيكل وفقاً لمراحل تطوره العمري كلما انتقلنا من جزء إلى آخر حتى ترتبط الصورة الذهنية لدى القارئ بمضمون الجزء الصادر من مقالات (بصراحة) لذلك الكاتب الأسطوري الذي نفتقد وجوده، فلقد كان قادراً على توصيف كل مشهد وتحديد البوصلة الوطنية عند مفارق الطرق، وكان مزيجاً من الكاتب والمفكر والمحلل السياسي، وما أحوج الأجيال الجديدة حالياً إلى من يمتلك تلك السبيكة الرائعة ويضع يديه على الرؤية المضيئة وسط الظلام.
وقديماً قال الشاعر العربي (وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر) فليقل مريدو هيكل وخصومه ما يشاؤون مدحاً أو قدحاً في الرجل، إلا أنه كان بغير جدال ظاهرة متفردة قادرة على التقاط جوانب المشهد السياسي في براعة الجرّاح الماهر.
إنني لا أنسى ما قاله بعد ثورة 25 يناير حين اكتشف بحسه الرفيع أنه لا يوجد برنامج سياسي ولا قيادة للثورة الجديدة، فقال الراحل وقتها: ( إننا كمن هبط على سطح القمر ولم يجد ما يطلبه إلا نصف كيلو كباب!). ولا غرو فهو الرجل الذي تفاعل مع تاريخ مصر الحديث وأثر بشكل مباشر فيه ولم تقف حدوده عند المفهوم السلبي لدور الصحفي بل كان بحق جزءاً من القرار السياسي والطرح الوطني في فترات صعبة من تاريخنا القومي، كما امتلك ذكاء حاداً وخيالاً واسعاً وكان مزيجاً من الصحفي والأديب والروائي والمؤرخ، لذلك فإنني سعدت كثيراً بتجميع مقالاته التي أثرت فينا بل وفي صناعة القرار السياسي ذاتها في عصري عبد الناصر والسادات، فهو شاهد مباشر على عدوان 1956 وهزيمة 1967 والعبور العظيم عام 1973، بل هو الذي صاغ أمر القتال العسكري لتلك الحرب الظافرة.
إن مقالات هيكل تحتاج إلى مراجعة أمينة وصادقة وإذا كانت السيدة الفاضلة الأستاذة الدكتورة هدى جمال عبدالناصر قد أسدت خدمة جليلة للتاريخ المصري المعاصر بتجميع وتبويب وفهرسة وتحليل فترة حكم أبيها من خلال الوثائق والمراسلات والخطب العامة،فإن ذلك يكتمل بالضرورة عندما نغوص في كتابات هيكل الأقرب إلى عبدالناصر بل هو شريك في صياغة كثير من مواقف الزعيم وبياناته ووثائقه.
وأنا أهيب بأبناء الكاتب الكبير أن يقوموا بالسعي لجمع وثائق الأب الراحل وكل ما حازه من مراسلات وبرقيات ومصادر للمعلومات، فذلك جزء من تاريخ وطنهم الذي يعتزون به لأنهم ورثوا عن أبيهم ذلك الشعور بالكبرياء الوطني الذي نفتقده دائما، وإذا كان الدكتور (علي هيكل) قد انصرف إلى مهنته كأستاذ طب مرموق برع في مجاله، وإذا كان الدكتور (أحمد هيكل) قد أعطى وقته وجهده للنشاط الاقتصادي والاستثماري فإنني أهيب بالابن الأصغر الدكتور (حسن هيكل) وهو في الأساس خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية أن يضع هذا الهدف أمام ناظريه ليتم رسالة والده ويقدم للمكتبة الوطنية الرسمية ولأرشيف الدولة ما يمكن أن يكون إضافة تاريخية خالدة لذلك الكاتب الراحل الذي يفتقده الوطن بل وأفتقده شخصيا شعاعا للضوء ومصدراً للاستنارة وجرس إنذار مبكر يقوم بعملية استباق وقائية للمخاطر المحتملة والتحديات القادمة.
وقد علمت أن نيران الإرهاب قد حصدت جزءاً من المكتبة الوثائقية للكاتب الراحل بهجوم غادر على مقره في (برقاش) غداة فض اعتصام (رابعة العدوية) منذ ثلاثة أعوام ولكننا نأمل أن يكون لدى الأسرة المحترمة ما يمكن تقديمه للشباب المصري والأجيال القادمة التي تشعر بحالة انفصام عن تاريخها القريب حتى أصبحت غير قادرة على فهم حاضرها أو استشراف المستقبل من خلال المشهد الحالي، فالذاكرة الوطنية هي التي تحفظ تراث الأمة وتعبر عن المخزون السياسي للوطن مهما طال الزمن.
إن إصدار مركز الأهرام للنشر مقالات (بصراحة) من بدايتها إلى نهايتها في سلسلة هامة من الأجزاء عبر السنين المتتالية هو خدمة كبيرة للمؤرخين والباحثين والساسة بل وعامة الناس، إنه تصرف يذكر دائماً للأهرام ويبقى تأثيره مشعاً ومضيئاً، ومصدراً للمعرفة لا يخبو نوره أبداً!
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"