ورقة الاقتصاد التركي

03:07 صباحا
قراءة 4 دقائق
رغم فوز حزب العدالة والتنمية بالعدد الأكبر من المقاعد في الانتخابات التركية الأخيرة فإن خسارة حزب الرئيس المثير للجدل رجب طيب أردوغان للأغلبية المطلقة لصالح أحزاب المعارضة أثار موجة من التعليقات والتحليلات في تركيا وخارجها. وعرجت بعض تلك التحليلات على الورقة الأساسية التي لعب بها أردوغان في تسيده للحياة السياسية التركية منذ مطلع القرن وهي ورقة الاقتصاد. ذلك أن حزب أردوغان حقق ما يشبه المعجزة بانتشال الاقتصاد التركي من شبه هاوية ونقله إلى أن يصبح واحداً من بين الاقتصادات الصاعدة في العالم. وأدى ذلك خاصة في السنوات الخمس الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية (2002-2007) إلى زيادة مطردة في شعبية الحزب وزعيمه أردوغان وتكوين قاعدة انتخابية هائلة في المناطق الريفية وبين الطبقة الوسطى. ذلك أن كثيراً من أصحاب الأعمال الخاصة الصغيرة والمتوسطة (حتى في القطاع الزراعي) أصبحوا يتطلعون إلى الثراء في أجواء اقتصاد سريع النمو وانسياب مطرد لرأس المال الأجنبي إلى البلاد.

واستمر هذا التوجه حتى خلال الأزمة المالية العالمية قبل ست سنوات عندما كانت اقتصادات بقية العالم الغربي تهوي بينما الاقتصاد التركي يحافظ على وتيرة نمو معقولة وتصعد مؤشرات أسهم البورصة التركية بسرعة. لكن مع بداية العقد الثاني من القرن أخذت تلك الحمية الهائلة تبرد، وبدأ كثير من الأتراك يفيقون من وهم الثراء السريع. وزاد من الأثر السلبي أيضا أن عمليات إعادة الهيكلة صاحبتها ممارسات فساد بدأت تتكشف وتزكم الأنوف وطال التورط فيها عدداً ممن حول أردوغان. كل ذلك اسهم في فقدان ورقة الاقتصاد التركي قيمتها في الانتخابات الأخيرة، ولسبب يكاد يكون نفسيا أكثر منه حقيقيا. فرغم كل الكبوات في الأعوام الثلاثة الأخيرة، يظل أداء الاقتصاد التركي جيدا. ولنستطلع بعض الأرقام والحقائق:

بلغت نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي التركي في الربع الأول من هذا العام 2.3 في المئة (مقارنة بنسبة 2.57 في المئة في الربع نفسه من العام الماضي). ومنذ نهاية 2002 حتى الآن حقق الاقتصاد التركي نموا بنسبة 68 في المئة، أي في المتوسط بنسبة 4.5 في المئة سنويا (لكن كل السنوات لم تكن مثل بعضها بالطبع). وتظل تلك النسبة أعلى من نسبة نمو جنوب إفريقيا والبرازيل (وهي من دول بريكس الأربع مع روسيا والصين) وإن كانت أقل كثيرا من نسبة النمو السنوي في الصين. وارتفع معدل الدخل السنوي للفرد من 3500 دولار في السنة عام 2002 ليصل إلى حوالي 11 ألفاً عام 2014. إلا أنه في العام الماضي كان نمو الاقتصاد أقل من ثلاثة في المئة (2.9 في المئة) بينما ارتفع معدل البطالة إلى نسبة تزيد على 10 في المئة. وفي التسعينات كانت نسبة التضخم تصل أحيانا إلى 100 في المئة (أي إن الأسعار تتضاعف في عام). وكانت نسبة التضخم، قبل وصول حزب العدالة إلى السلطة في تركيا 55 في المئة، لكنها أخذت تتراجع حتى بلغت أقل من 10 في المئة مع بداية 2014.

في تقييمه للاقتصاد التركي بنهاية عام 2014 قال تقرير لصندوق النقد الدولي: «يظل الانسياب العكسي لرؤوس الأموال الخطر الأكبر» ويخلص إلى أن «الانخفاض الحاد في دخول رؤوس الأموال سيؤدي إلى الركود». وحسب دراسات بريطانية، يظل وضع القطاع المصرفي التركي حرجاً إلى حد ما، فالديون الخارجية للمصارف في ازدياد في الأعوام القليلة الأخيرة. إنما المطمئن حتى الآن أن القدر الأكبر من تلك الديون مقوم بالعملة المحلية، ما يعني أن هبوطها المطرد يقلل من أزمة مديونية القطاع المصرفي.

ما حدث إذا ليس تراجعاً كبيراً في الاقتصاد التركي، بقدر ما هو «تبخر التفاؤل» ولهذا اسباب عديدة أعمق من فضائح الفساد التي صاحبت النمو. وكلها أسباب متداخلة، وبينها ما ليس بالاقتصادي تماما وانما يتعلق بطموحات أردوغان التي جعلت السياسة الخارجية التركية مضطربة على اقل تقدير وكارثية (اقتصاديا على الأقل) حسب معارضي أردوغان وحزبه. اقتصاديا، كانت فورة النمو في السنوات الأولى لحكم أردوغان قائمة على خصخصة أصول البلاد بوتيرة غير مسبوقة، وأدى ذلك إلى تدفق اموال هائلة أسهمت في تغذية التفاؤل بالثراء بين غالبية الأتراك. لكن تلك الأصول أوشكت على النفاد (أي بلغة عادية: لم يبق هناك ما يمكن بيعه بعد). وتركز الاهتمام على قطاعات خدمية كالمصارف والسياحة وغيرها وقطاع الاستثمار العقاري. ووصلت تلك القطاعات إلى حد التشبع تقريبا. أما الاستثمار في القطاعات التي أدت إلى زيادة حجم التجارة وبيع الخدمات فلم يكن بالقدر نفسه، وإن أدت إلى تضييق فجوة العجز التجاري في الفترة الأولى من حكم أردوغان.

كان لاصطفاف أردوغان مع تنظيمات الإسلام السياسي (وحتى شبهة دعم جماعات متطرفة وارهابية في سوريا والعراق) أثره على المستثمرين. ويتعلق ذلك بما تسمى «الأموال الساخنة» أي تلك التي تطير بسرعة بمكاسب كبيرة من مكان إلى آخر، وأغلبها يكون في مجال المضاربة على العملات والأسهم. بدأت تلك الأموال الساخنة إما تخرج من تركيا، أو على الأقل يتراجع انسيابها إليها وسط مخاوف من تأثير الأزمات الإقليمية التي تتورط فيها تركيا. إنما الأهم والأخطر فهو عدم قدرة أردوغان على استغلال الخلاف الخليجي الإيراني لتعزيز مكاسبه الاقتصادية. بالطبع حققت تركيا مكاسب آنية في مدة ما كنافذة لإيران في ظل العقوبات، وتمكنت من جلب استثمارات خليجية في قطاعات مختلفة منها التطوير العقاري، لكن ذلك كله تراجع في السنوات الأخيرة. وخسرت تركيا مليارات الدولارات من الاستثمارات الخليجية المخطط لها بسبب سياسة أردوغان. كذلك بدأت إيران تستعد لاحتمالات رفع العقوبات بالتوجه نحو الغرب ودول آسيا أكثر من تركيا.

تلك كانت الخسارة الحقيقية لورقة الاقتصاد في الانتخابات التركية سياسية أكثر منها اقتصادية بالأساس.


د. أيمن علي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"