وقفات عتاب مع شعوب

05:46 صباحا
قراءة 4 دقائق
جميل مطر

تعودنا أن تكون وقفات عتابنا مع السلطة السياسية، كلما احترنا بحثاً عن تبرير أو تفسير لتقصير أو عجز في أداء دولة أو أخرى، إلا أنني بدأت ألاحظ منذ مدة أن هناك تغيراً واضحاً في مواقفي من مسؤولية أزمات وتطورات في دول كثيرة. بدأ التغير نتيجة تعدد حالات سوء الفهم أو انعدامه كلية. أنا حالي كحال الكثيرين، كنت أركز على سلوك القوى المؤسسية، أركز على سلطات الحكم من قوى تنفيذية وتشريعية، وعلى الأحزاب والنقابات وجماعات المجتمع المدني، وفي النهاية كنت أخلص بتوجيه انتقاد أو عتاب إلى هذه الجهة، أو تلك التي تتحمل في نظري المسؤولية، وفي أحيان أشارك في احتجاج أو أجرب التمرد عليها. اكتشفت أننا في حالات غير قليلة كنا نركز على جهات لم ترتكب خطأ جسيماً ولا ذنباً عظيماً.
تشير التقارير الواردة من واشنطن إلى حقيقة مذهلة. تشير إلى أن الرئيس دونالد ترامب مازال يحظى مع مرور الوقت بزيادات في درجات مستوى شعبيته. يحدث هذا على الرغم من أن هناك في الولايات المتحدة ما يكاد يقترب من أغلبية ساحقة حتى بين مؤيدين للحزب الجمهوري، يدركون أن للرئيس ترامب منظومة أخلاقية لا تتناسب من قريب أو بعيد وما عرفناه عن منظومة الأخلاق والسلوكات المبتغاة. تصورنا في بداية العهد أن شعبية الرئيس تكونت خلال معركة انتخابية أنفقت فيها حملة الرئيس أموالاً طائلة، واستخدم فيها المرشح كل ما أتقنه من أحدث أساليب وفنون التصوير السينمائي، وإخراج أفلام الواقع وما أجاده من خبرة طويلة في مهنة المقاولات واكتناز المال. في الوقت نفسه أثبتت الحملة المضادة لخصمه، وأقصد هيلاري كلينتون نجاعتها، سواء شاركت في التخطيط لها أو في تنفيذها أجهزة استخباراتية روسية، كما يزعم خصوم الرئيس في الحزب الديمقراطي والاستخبارات الأمريكية، أو خططت لها ونفذتها أجهزة أوكرانية، كما يزعم اليوم الرئيس ترامب وأنصاره وكبار مساعديه. بمعنى آخر كاد الطرفان يلتقيان عند نقطة أضافت مزيداً من السخرية على موقف هو في الأصل مثير للسخرية، التقيا عند اعتراف مشترك بأن آخر انتخابات رئاسة أمريكية أتت بالرئيس ترامب، واستبعدت كلينتون كانت مزورة.
أحاطت بالرئيس الأمريكي خلال الحملة الانتخابية ثم خلال أكثر من نصف مدة حكمه سير وشائعات وقضايا.
لن أتمكن في هذا الحيز الضيق من حصر كل ما ألحق بالرئيس ترامب من اتهامات بتجاوزات تصورت خلال جمعها على امتداد أكثر من ثلاثين شهراً أن العائلات الرشيدة في الولايات المتحدة لن تسمح لأطفالها ومراهقيها بالاطلاع عليها أو حتى مناقشتها في حضورهم. كنت مخطئاً. هكذا حكمت أنا نفسي على تصرفي مع سيرة الرئيس الشخصية وفهمي لها. لم أتصور أن سيرة على هذا النحو المتردي أخلاقياً وسياسياً تصلح لتستمر نموذجاً يعززه موقف نواب الأقلية الجمهورية في مجلس النواب وأغلبية الأعضاء في مجلس الشيوخ، إضافة إلى ملايين الناخبين من المزارعين والعاطلين عن العمل والسكان البيض الأصليين، الذين يجددون يومياً عزمهم الاستمرار في دعم الرئيس ترامب. لم أتصور أننا سنصل إلى بداية حملة الرئيس الانتخابية للولاية الثانية بين توقعات متصاعدة بفوزه. الشعب يريد ترامب. يريده بمواصفاته سيئة السمعة.
عشت في الهند ردحاً من الزمن ودرستها ردحاً آخر. استطاع حزب المؤتمر الهندي قيادة مرحلة ما بعد الاستقلال بنجاح وبأقل مقاومة ممكنة من جانب عناصر التطرف.
أسباب متعددة أحالت حزب المؤتمر إلى الاستيداع، لم ننتبه في حينه إلى أن العلمانية سبقت الحزب إلى التراخي فتراخت. وفي المقابل خرج حزب متطرف صغير من ولاية جوجارات الفقيرة والضعيفة ليصبح في سنوات قليلة حزباً حاكماً للهند قاطبة بأغلبية ساحقة. اليوم يحذفون أسماء لمعت خلال المرحلة الإسلامية المغولية في تاريخ الهند. يريدون محو هذه المرحلة. شعب آخر أعجبني بدأ يخيب ظني فيه.
بشغف، اشتهرت به بين أصدقائي وتلاميذي، تابعت قبل سنوات تشكيل إيفو موراليس حكومة شغل أغلب مناصبها وزراء ومسؤولون ينتمون إلى سكان بوليفيا الأصليين. وقتذاك شاهدت مزارع شجيرة الكوكا في الصور محمولاً على الأعناق كأول مواطن من السكان الأصليين يحكم دولة في أمريكا اللاتينية. تشير التقارير الدولية إلى أن السكان الأصليين نجحوا بزعامة موراليس في إدارة دفة الحكم، وكما تشير إلى أن الفجوة بين الدخول في عهد حكومته كانت الأضيق، وأنهم حققوا في التعليم والرعاية الصحة والتوظيف إنجازات مرموقة. موراليس حالك كحال الكثيرين غيره من حكام العالم النامي أراد تحقيق المزيد فراح يعدل دستور بلاده ليبقى في الحكم ولاية إضافية. وقعت الفتنة وانقسم شعب موراليس على نفسه. أما موراليس الزعيم والبطل فقد لجأ إلى سفارة المكسيك في العاصمة البوليفية، أملاً في أن تنقله سالماً إلى المكسيك ليعيش فيها لاجئاً سياسياً بعيداً عن قطاع من شعبه المفتون بوعود رخاء على أيدي طبقة سياسية نيوليبرالية. هذا الشعب سوف يتحمل في رأيي مسؤولية ما سوف يفقده من إنجازات اجتماعية، يتحمل أيضاً المسؤولية عن خيبة أمل أصابت عشرات الملايين من السكان الأصليين في القارة
ذات يوم استأت فيه أيما استياء. كنا قد اجتمعنا لنناقش أمراً مهماً. كدنا نمر مرور الكرام على ما ورد في مداخلة مشارك عالي المكانة الثقافية ذكر فيها أن الشعوب أيضاً تختلف فيما بينها من حيث قابليتها للتحديث.
حاولت على مدى سنوات نسيان هذه المداخلة وفشلت. درت خلال هذه السنوات أركان العالم الأربعة. عدت بحصيلة ثقيلة. ليست كل الشعوب في كل الأزمنة، وتحت كل الظروف، بريئة من كثير مما سمعت من اتهامات عنها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"