يا للإنسان: ما إن يبني حتى يدمر

03:39 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو
موضوع «الإنترنت» أصبح موضوعاً مطروحاً بقوة في الكثير من بلدان العالم، وعلى الأخص في بلدان منشأه العلمي والتكنولوجي. من أهم الجوانب التي تشغل بال الكثيرين موضوع تركّز الهيمنة على شبكاته ومعلوماته واستعمالاته في يد أقلية من الشركات والأفراد، ما مكن تلك الأقلية من جني ثروات هائلة زادتها قوة ومكانة في حياة كل العالم.
من هنا يطلق البعض على تلك الظاهرة «رأسمالية الإنترنت»، لتضاف إلى قائمة طويلة من أنواع الرأسماليات التي تنتمي جميعها إلى أم واحدة: الرأسمالية العولمية المتوحشة. هناك رأسمالية الكوارث، ورأسمالية جيوش المرتزقة، ورأسمالية الإعلام.. إلخ والحبل على الجرار.
الجانب الآخر الذي يشغل بال الكثير من الجهات، هو موضوع التنامي في جمع أكبر وأشمل المعلومات عن الأفراد المستعملين لشبكات الإنترنت، بما فيها أدق التفاصيل الشخصية، لبيعها بأثمان باهظة للمؤسسات التجارية الكبرى، أو جعلها متاحة لسلطات وشبكات الأمن والتجسس والحكومات: والمقلق هو أن الشركات التي تقوم بذلك الجمع للمعلومات تقوم بالجمع من دون أخذ موافقة الأفراد أو رضاهم، الأمر الذي يعرض البعض للابتزاز، أو التشهير، أو كشف الأسرار الخاصة.
فإذا أضيف إلى ذلك أن بعض الاستعمالات الخاطئة للإنترنت قد ساهمت في خلق النزاعات العرقية، والدينية، والثقافية، وفي زيادة البطالة في بعض الأماكن، وفي ازدياد الهوة بين الغنى الفاحش السريع والفقر المدقع، وفي تنامي ظهور قوى العنف والإرهاب المجنون، وفي خلق اقتصاد استهلاكي عبثي لا يقف عند حدود.. إذا أضفنا كل ذلك، ندرك أسباب القلق الذي يجاهر به بقوة بعض الكتاب والمفكرين والسياسيين في الآونة الأخيرة.
لنذكر فقط بوصف الرئيس الأمريكي لشبكات الإنترنت بأن جموحها وعنفوانها يماثل الجموح الذي أصاب الغرب الأمريكي في الماضي بحثاً عن الثروة، والمعارك العبثية والاعتداء على الأبرياء، أو بالاهتمام المتنامي في البرلمان الأوروبي لوضع ضوابط حقوقية واقتصادية لضبط جنوح وسلبيات حقل الإنترنت، وطمع وسرقات وتلاعب مالكي شبكاته، وعلى الأخص الأمريكيين منهم.
لنعد إلى أرض واقعنا العربي، ونسأل: هل إن المجتمعات العربية تواجه الظواهر نفسها بالنسبة لحقل الإنترنت وشبكاته، وبعض استعمالاته السلبية المضرة؟ الجواب المؤكد هو نعم. بل هناك ظواهر سلبية أخرى خاصة بنا، تتعلق بمقدار الحرية المتوفرة، وشدة القمع الأمني لبعض مستعملي الشبكات من الناشطين السياسيين، والهرج والمرج الطائفي الحقير، أو الثقافي المتخلف، والهوس بالانغماس المريض في عالم الإنترنت على حساب الكثير من جوانب الحياة المهمة المتعلقة بالأفراد، وبالمجتمعات أيضاً.
في بلدان الغرب يجري حراك كبير متعاظم للإصلاح، وضبط حقل الإنترنت من قبل الحكومات، والبرلمانات، ومؤسسات المجتمع المدني. يجري الحراك أساساً لمنع احتكار ذلك الحقل الذي يمس حياة المليارات من البشر، منع احتكاره من قبل مجموعة صغيرة مغامرة متحكمة من الشركات والأفراد، ولمنع أيضاً أن يصبح هذا الحقل مجالاً لتعاظم الثروات، وبالتالي النفوذ والتحكم في المعرفة والمعلومات، في أياد قليلة. هناك الآن حديث عن حقوق الإنسان الإنترنيتية، عن حماية سمعة الإنسان، عن معاقبة من يسيئون استعمال حرية هذا الحقل واتساع انتشاره.
موضوع التأثيرات السلبية للإنترنت في المجتمعات العربية يحتاج إلى أن يدرس من قبل مراكز البحوث المختلفة. وحتى ذلك الحين لا يحتاج الإنسان إلا لأن يراجع السفه والبلاءات والصراعات الطائفية والقبلية التي يتداولها الناس عبر مختلف شبكات التواصل العربية، حتى يدرك أن العرب يحتاجون لجهات تدخل الإصلاح مسار هذا الحقل.
مرة أخرى لا يمكن إصلاح مشكلات هذا الحقل إلا من خلال قوى السياسة ومؤسساتها، الحكومات والبرلمانات والقضاء من جهة، ومؤسسات المجتمع المدني من جهة أخرى. فإذا كانت السياسة فاسدة، أو عاجزة فإن الإصلاح سيكون متعثراً.
ستكون مأساة للعرب وللعالم لو أن حقلاً كان يحمل أعظم الآمال لتحسين حياة البشر، السياسية والاقتصادية والثقافية، سمح له بأن يقع في أيادي قلة من الطامعين والفاسدين، مثل بعض شركات الشبكات، أو بعض الأفراد المهيمنين على استعمالات الشبكات، أو بعض أجهزة الأمن والاستخبارات التجسسية والباطشة والمعادية للحريات.
يا للإنسان: كم يبني وكم يدمر.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"