«التجارب الكورية».. صواريخ وقدرات تفاوضية

04:02 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. أحمد قنديل *


بعد ساعات قليلة من تلميحها إلى رغبتها في استئناف المحادثات المتعثرة مع الولايات المتحدة في نهاية شهر سبتمبر/أيلول الجاري، بشأن التخلص من برامجها النووية والصاروخية، أطلقت كوريا الشمالية مجموعة جديدة من الصواريخ قصيرة المدى في العاشر من سبتمبر.
كانت بيونج يانج قد حذرت في اليوم السابق على التجارب الصاروخية، وعلى لسان النائبة الأولى لوزير الخارجية الكوري الشمالي، من أن المفاوضات النووية «المتعثرة» مع الولايات المتحدة قد «تنتهي تماماً» ما لم تقدم واشنطن «مقترحات جديدة» و«مقبولة» لتحقيق مصالح الدولتين. ورداً على ذلك، وصف المسؤولون الأمريكيون عمليات إطلاق الصواريخ قصيرة المدى الأخيرة ب«الاستفزازية»، رغم أن الرئيس دونالد ترامب نفسه تجنب انتقادها، بل ورحب بالعرض الكوري الشمالي لاستئناف المحادثات النووية، مؤكداً على «علاقته الجيّدة» مع زعيم النظام الكوري الشمالي.

القدرات الصاروخية

ويشير الخبراء إلى أن الاختبار الصاروخي الأخير لبيونج يانج يعد الاختبار العاشر من نوعه هذا العام، والثامن منذ أواخر يوليو الماضي، والأول منذ 24 أغسطس الفائت. وقد كشفت هذه الاختبارات عن حدوث تطور كبير في القدرات الصاروخية قصيرة المدى، خاصة فيما يتعلق بالنسخة الكورية الشمالية من الصاروخ الأمريكي «ATACMS
»، ما سيرفع بشدة من قدرات بيونج يانج على ضرب أهداف في جميع أنحاء كوريا الجنوبية، بما في ذلك القواعد العسكرية الأمريكية، مثل قاعدة بيونج تيك، وقاعدة سونج جو لمنظومة الدفاع الصاروخي الأمريكي المتطور «ثاد» وغيرهما.
ولا شك أن زيادة القدرات الصاروخية لكوريا الشمالية من شأنه زيادة القوة التفاوضية لبيونج يانج حال استئناف المحادثات النووية المتعثرة مع واشنطن، فاستعراض «العضلات الصاروخية» يبعث برسالة شديدة وواضحة إلى الرئيس ترامب مفادها أن الكوريين الشماليين بإمكانهم تهديد القوات الأمريكية الموجودة في كوريا الجنوبية واليابان، فضلاً عن استعدادهم التام لاختبار أسلحة «أكبر وأخطر» إذا رفضت الولايات المتحدة تقديم تنازلات كبيرة لهم في جولة المفاوضات القادمة. حيث تصر بيونج يانج بأن تقوم إدارة الرئيس ترامب بتقديم «مقترحات جديدة»، تشتمل على إعطاء ضمانات أمنية بعدم الاعتداء عليها، وتخفيف واسع النطاق للعقوبات الدولية المفروضة عليها مقابل خطوات محدودة لنزع سلاحها النووي.

تكتيك جديد

مزج التجارب الصاروخية مع الدعوة إلى استئناف المفاوضات السياسية المتوقفة «تكتيك جديد» تتبعه بيونج يانج في ظل مشاعر إحباط وخيبة أمل تنتاب زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون نتيجة فشل القمة الثانية التي جمعته في فبراير الماضي مع الرئيس ترامب في فيتنام. حيث رفض الرئيس الأمريكي مطالب أون بتخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة على بلاده من الأمم المتحدة والولايات المتحدة مقابل نزع السلاح النووي جزئياً. وكان هذا الرفض محرجاً للغاية للزعيم الكوري الشمالي، الذي قام برحلة قطار لمدة عدة أيام إلى العاصمة الفيتنامية هانوي للحصول على تخفيف العقوبات الاقتصادية القاسية، والذي يحتاج إليه بشدة لتنشيط اقتصاد بلاده المضطرب.
التكتيك الجديد يعكس استعداد بيونج يانج للحوار مع إدارة الرئيس ترامب، وفي الوقت نفسه، يكشف عن تزايد «عدم الثقة» لدى الكوريين الشماليين في إمكانية نجاح هذا الحوار في التوصل إلى «صفقة عادلة» تراعي مصالحهم الأمنية والاقتصادية. ويأتي هذا التكتيك بعدما أكد الرئيس الكوري الشمالي، في إبريل الماضي، على أنه منفتح على قمة أخرى مع ترامب، لكنه حدد نهاية العام الحالي ك«موعد نهائي» للولايات المتحدة لتقديم مقترحات «مقبولة» للتوصل إلى اتفاق بشأن برامج بلاده النووية والصاروخية.
كما يأتي هذا التكتيك أيضاً بعد فشل اللقاء الأخير بين كيم وترامب على الحدود الكورية في أواخر يونيو الماضي في استئناف المفاوضات الدبلوماسية المتعثرة، رغم الاتفاق بين الرئيسيين على ذلك.
وربما يكون هذا التكتيك الجديد من جانب كوريا الشمالية ضمن أحد العوامل المهمة التي ساهمت بشدة في الإطاحة بمستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي، جون بولتون. وهو الأمر الذي ألمح إليه الرئيس ترامب نفسه، بعد يوم واحد من إقالة بولتون، عندما قال إن الأخير كان «كارثة» في التعامل مع ملف كوريا الشمالية، مشيراً إلى أن بولتون ارتكب أخطاء عديدة منها الإساءة لزعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون، عندما طالبه بأن يحذو حذو «النموذج الليبي» ويسلم كل أسلحته النووية.
وكانت كوريا الشمالية قد وصفت بولتون مراراً في الشهور الماضية بأنه «مولع بالحرب». وفي العام الماضي، هددت بيونج يانج بإلغاء أول قمة بين كيم وترامب، بعدما اقترح بولتون استخدام القوة العسكرية للإطاحة بالأسرة الحاكمة هناك. وقال مسؤولون أمريكيون إن بولتون كان مسؤولًا عن انهيار القمة الثانية لترامب وأون في فيتنام في فبراير.

ممارسة أقصى الضغوط

على أية حال، يقول محللون سياسيون إن تكتيك كوريا الشمالية الجديد بمزج التجارب الصاروخية مع الدعوة إلى عقد المفاوضات السياسية، فضلاً عن رحيل بولتون قد يساعد الجهود الدبلوماسية لإحياء المحادثات النووية بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية.
وفي هذا السياق، من المتوقع أن تستأنف هذه المحادثات في أواخر سبتمبر الجاري، أي بالتزامن مع اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تعقد في الأسبوع الأخير من سبتمبر في نيويورك.
ومع ذلك، لن تؤدي هذه المفاوضات على الأرجح إلى تحقيق التوافق بين واشنطن وبيونج يانج حول البرنامج الزمني والتفصيلي للتخلص من كافة الأسلحة النووية لدى كوريا الشمالية. ومما يدعم من هذا التقدير أن واشنطن لم تقدم أية إشارة، حتى كتابة هذه السطور، على أنها ستتخلى عن إستراتيجية «ممارسة أقصى الضغوط» أو أنها ستوفر ضمانات أمنية لعدم تغيير النظام في بيونج يانج أو أنها سوف تخفف العقوبات الاقتصادية المفروضة على كوريا الشمالية، فضلاً عن استمرار وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، في منصبه، وهو الرجل الذي طالبت بيونج يانج مراراً وتكراراً باستبداله، ووصفته وسائل الإعلام الرسمية في كوريا الشمالية بأنه «غير ناضج» و«سم قاتل» لعقد أية محادثات في المستقبل.
ومن جهتها، ليس من الوارد أن تقوم بيونج يانج بتغيير موقفها الحالي في المفاوضات مع واشنطن، خاصة مع تزايد قدرتها على التكيف مع العقوبات الدولية المفروضة عليها (وهو ما أكده تقرير نشرته لجنة خبراء من الأمم المتحدة في بداية شهر سبتمبر الجاري)، ومع تنامي ثقتها في برامجها النووية والصاروخية ك«رادع» أمام أي عدوان عسكري عليها للإطاحة بالنظام الحالي في بيونج يانج من جانب واشنطن وحلفائها في كوريا الجنوبية واليابان.

* رئيس برنامج دراسات الطاقة وخبير العلاقات الدولية. مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"