«القيافة».. قراءة فصيحة للخطى

«الجفير» تميز بقوة الملاحظة
02:40 صباحا
قراءة 5 دقائق

تحقيق: فدوى إبراهيم

تعتبر مهنة اقتفاء الأثر من المهن التي اشتهرت في بيئة البادية، وكان صاحبها يُعتبر بمثابة المتحري اليوم، اشتهر بها بعض الأعراب في صحراء العرب، ممن كانوا يمتلكون سمات تؤهلهم لامتهانها، كدقة الملاحظة والذكاء الحاد، وكان للوراثة دور في ذلك، وامتداداً لذلك الإرث والتراث العربي ظهر في الإمارات عدد من قصاصي الأثر، أو من يعرفون محلياً بالجفير.
ذكرت العديد من المراجع المحلية مهنة اقتفاء الأثر، وما بات يعرف ب «القيافة» كجزء لا يتجزأ من التراث المحلي الخاص بأهل الصحراء، وكان أصحابها ذوي صيت شائع ومكانة، حتى أن البعض يخشون أن يكتشفهم الجفير من نظراتهم؛ لما يتسم به من فراسة، وفي كتاب «أيادٍ من ذهب» ليوسف العدان، يعرف قصاص الأثر، بأنه الشخص الذي يمتلك القدرة على التعرف إلى أقدام الآخرين، ويمثل بذلك جانباً كبيراً من جهاز الأمن للقبيلة، حين يتعرف إلى آثار اللصوص أو الغرباء، أو يتتبع أثر أحد أبناء القبيلة إن غاب عن أقرانه، وبرغم أن البعض يرى أن ذلك كان عادة منتشرة بين أبناء العشيرة الواحدة والقبيلة الواحدة، فإن هناك من يرى أنها هواية تبدأ منذ أيام الصبا، ويتمتع صاحبها بذكاء وقوة ملاحظة كبيرة نتيجة خبرته، التي تجعله موضع اهتمام القبيلة التي تستدعيه للبحث عن آثار الغزاة أو السارقين أو المندسين من الغرباء، حيث يصل بخبرته إلى المشتبه به ويصبح متهماً، ويتم الحفاظ عليه لمحاكمته، وإن لم تتطابق الآثار أعاد قاطع الأثر البحث عن المطلوب مرة أخرى، وكان يصل الأمر بالجفير إلى أن يميز بين آثار أقدام المرأة الحامل والمتزوجة من غيرهما من خلال آثار الأقدام.
وبحسب الطنيجي، يتعين على القصاص معاينة الأثر، وتحديد كل تفاصيله من تقسيماته وملامحه وحجمه وحفظها بدقة، وتمييز ملامح القدم كمعرفة طول الأصابع، والإبهام والخنصر، والفوارق بين كل إصبع، وحجم القدم، وهل هي مسطحة أم صغيرة، كما أن من تلك الملامح يمكن التعرف إلى طول صاحبها ومن أي قبيلة، ويشير الطنيجي لبعض الملامح التي تكاد تميز أثراً عن غيره، فمن يتميز بأنه «أكرف» تكون حركة قدميه إلى الداخل أثناء سيره، بينما «الأسرك» هو من تكون حركة قدميه للخارج، و«الأطرق» هو من تكون حركة قدميه باستقامة إلى الأمام، تلك الآثار يمكن تمييزها في أرض رملية خالية من الحصى. أما في المناطق الجبلية فبعضها يكون عن طريق روث الحيوانات، وبعضها الآخر لين وصالح للاقتفاء وتسمى المجفار.
وحول تمييز آثار الجمال يقول: «يختلف البعير عن الناقة في أثر قدمه؛ حيث إن خف البعير أكبر من خف الناقة، ويمكن كذلك تمييزهما من طريقة «التبول» ومكانه».
ويشير الدكتور سيف البدواوي، باحث في التاريخ والتراث، إلى أن مهنة الجفير في الإمارات جاءت لتلبي احتياجات أهل البدو؛ حيث كان أولئك يتركون إبلهم ترعى في الأرض، وهو الأمر الذي يفقدهم في أحيان كثيرة بعضها، فيتتبعون أثرها لمسافات طويلة حتى يجدوها، ومع الوقت أصبح لديهم الخبرة الكافية لتمييز آثار أقدامها فيتبعونها لأيام، ومسافات تصل أحياناً حتى السعودية من شدة ارتباطهم بها، وهنا نؤكد أن الحاجة كانت دليلهم للجفير أو تقفي الأثر، وبعد حين تطور الأمر حتى بات حامل صفات الذكاء والنباهة والملاحظة الحادة قادراً على تتبع حتى أثر السارقين، الساطين، والمجرمين، وأصبح الناس يعتدّون بهم للكشف عن تلك الحالات، لدرجة أن العامة أصبحوا يدركون ما لأولئك الأشخاص من قدرة على كشف الجرائم والسرقات، فكانوا ما إن يقفوا أمامهم حتى يقروا بفعلهم، وفي أحيان أخرى يخشى بعضهم من الفضيحة فيتعاملون بشكل خاص مع الجفير، ويسوون مسائلهم بعيداً عن العامة. ويشير البدواوي إلى أنه مع دخول حياة المدينة بدأت المهنة تتلاشى شيئاً فشيئاً، حتى انقرضت اليوم.
يقول الدكتور عبدالله المغني، باحث في التاريخ والتراث: «يمثّل قاصّ الأثر أو مقتفيه رمزاً تراثياً عريقاً في تراثنا العربي، وهي مهنة اختص بها بعض العرب منذ القدم، فكانوا يعملون أدلاّء، يجوبون الصحاري والقفار، ويبحثون في الأرض عن الأثر وخطى العابرين في البيداء، قبل أن تطمرها الصحراء في طي النسيان؛ لذلك فإن هذه المهنة تعتمد على الحدس والفراسة وقوة الملاحظة ودقة التركيز، حيث كانوا يستدلون بها على مواضع السرّاق وأصحاب الجرائم وغيرهم».
ويشير المغني، إلى أنه امتداداً لذلك التراث وتأثراً به وتفاعلاً معه ظهر في إمارات الدولة قصاصو الأثر، واصطلح على تسمية واحدهم بالجفّير، وهو الذي يتتبع الأثر، وكانت هذه المهنة أكثر شهرة وانتشاراً في أوساط البدو الإماراتيين؛ لكونهم يقطنون في صحراء مفتوحة، ولم تكن توجد لديهم وسائل دقيقة للكشف عن المقبلين آناء الليل وأطراف النهار، علناً أو سراً، فكان الجفّير «خبيراً أمنياً» عارفاً بعلامات الأقدام واختلافاتها، صاحب قدرة فائقة، إن لم تكن خارقة في التمييز بين أقدام الناس، ومعرفة أثر الشخص المطلوب، لصاً كان أو مجرماً أو مقتحماً حمى القبيلة. كما كان الجفّير خبيراً في التمييز بين أقدام النساء وحالات الناس من أقدامهم.

سيرة ابن الغفلي

يعتبر محمد بن مبارك الغفلي ( 1906-1967) أحد أشهر قصاصي الأثر في الإمارات، ولد في أم القيوين وكان مرافقاً للمغفور له، بإذن الله، الشيخ راشد بن حميد النعيمي حاكم عجمان حتى وفاته. تميز الغفلي بالذكاء والفطنة وقوة الملاحظة، وساهم في تعقب الجناة واللصوص الفارين، واستعانت به الإدارة البريطانية في الشارقة في العثور على اللصوص الذين سطوا على محطة الشارقة «أول مطار في الشارقة»، حيث تم استدعاؤه إلى مجلس الشيخ المغفور له صقر بن سلطان القاسمي الثاني عندما قبض على المشتبه بهم، وعندها قال الغفلي دعوهم فإن السارق هو من يسكب لنا القهوة، ففاجأت كلماته اللص وأسقط الفنجان من يده واعترف بجرائمه، ونظراً لما حققه من نجاح باهر في القبض على اللصوص فقد تم منحه شهادة وراتباً شهرياً يقدر بـ200 روبية

ذكاء وفطنة

يحتفي متحف الشارقة للتراث بواحدٍ من أشهر الشخصيات التي عرفت بتقفي الأثر في الدولة، ويعرض المتحف في أحد أقسامه ملخصاً عن علم التجفير، حيث يسمى صاحبه «جفير» الذي بغض النظر عن قدرته على تعقب آثار أقدام الحيوانات، كان يستطيع التمييز بين الصغير والكبير، النساء والرجال، الأعمى والبصير، وتخمين أم طفل بعينه حتى وإن كانت بين مجموعة نساء من خلال دراسته لعلم الأنساب وصفات الأهالي، وهو هنا يعرف الأشخاص بالنظر إليهم والتعرف إلى سماتهم وصفاتهم وما إلى ذلك

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"