«الكتابة المشتركة»..الروح بأكثر من توقيع

01:22 صباحا
قراءة 8 دقائق
الشارقة: محمدو لحبيب

هل العلم هو فضاء المشتركات، وبالمقابل فإن الأدب هو مساحة الفردانية والأنانية؟، ليس هذا سؤالاً في إطار تحديد العلاقة الإشكالية القديمة بين العلم والأدب؛ كونه يعد جزءاً أصيلاً من الفكر أو الفلسفة الإنسانية، كلا؛ بل هو سؤال من وحي الملاحظة المباشرة؛ لما تحظى به الكتابة العلمية المشتركة، التي يؤلفها شخص أو اثنان أو ثلاثة أو مجموعة أكثر من اعتبار وتقدير، في مقابل الاستهجان والنقد والامتعاض الذي تتلقاه الكتابة الأدبية المشتركة، حين تُعرض على النقاد وعلى بعض الناس، حتى ولو كان من كتبوها من أعظم المبدعين في مجال الأدب بكل تفرعاته.
عشرات الكتب في الطب والفيزياء، وتكنولوجيا الاتصال وعلوم المستقبل وتنبؤاته، ومختلف التخصصات والمواضيع العلمية يمكن أن تصادفك في المكتبات أو معارض الكتب ممهورة بتوقيع عدة مؤلفين يتجاوزون الخمسة أحياناً، فتلتقطها لتقرأها بسلاسة وسهولة من دون أن تتساءل في الأغلب: أين هو أسلوب كل كاتب من هؤلاء المؤلفين، أين هي مساهمته الخاصة، كيف استطاعوا أن ينسقوا هذا الجهد ويحددونه بينهم؛ بحيث بدا الكتاب منسجماً جداً، إلى درجة أن قارئه ينسى تماماً أنه تأليف جماعي؟.
إنه العلم بمعادلاته الدقيقة، وقوانينه المجردة، ومعطياته البعيدة عن التأثر بالطبيعة الشخصية لكاتبه سواء كان فرداً أو مجموعة، هكذا يفسر بعضهم سهولة التأليف الجماعي في مجال الكتابات العلمية؛ لكن بعضهم الآخر يرى أن هذا الأمر يبقى نسبياً، فحتى في العلم لا يمكن لكل كتاب أن يبقى بعيداً عن مأزق الكتابة الجماعية، حتى في العلم يمكننا أن نطرح تساؤلاً يهز ذلك الاطمئنان؛ لسهولة الكتابة الجماعية حين نسأل: لماذا نرى كتباً فردية كثيرة من طرف آلبرت أينشتين وهايزنبيرج وماكس بلانك، رغم أن الفيزياء الكمية تجمعهم جميعاً تحت مظلتها؟، هل يمكن الحديث هنا عن نفس النوازع والحجج التي يسوقها بعضهم؛ للتعبير عن رفضه واستهجانه للكتابة الأدبية المشتركة، باعتبارها تقضي على التميز الذاتي، وتؤدي إلى خلط في الأسلوب يضيع معه المعنى، ويضيع القارئ من وراء ذلك؟.
في بداية ثمانينات القرن الماضي قررت قامتان أدبيتان وروائيتان تحديداً، أن تخوضا تجربة الرواية المكتوبة بشكل مشترك، فخرجت لنا رواية «عالم بلا خرائط» للكاتبين عبدالرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا، والتي كانت مسبوقة بتراكم من التجارب الفردية الإبداعية للكاتبين الروائيين الشهيرين.
لم يكن أي ناقد أو قارئ يشك إطلاقاً في قدرة أي كاتب من الكاتبين على صناعة سرد ممتع ومتقن للحبكة، ومزدحم بالإحالات الإنسانية والمشاعر والأفكار والتفاصيل الصغيرة التي تتم إضاءتها بشكل يجعلها تصل إلى القارئ كما لو أنها أحداث كبيرة، هناك إتقان تام من الكاتبين للعبة السرد تلك، لكن الرواية لم تحظ بالقبول الذي يفترض بها أن تحظى به.

بلا هوية

لقد عبّر بعض النقاد عن استهجانه من تلك التجربة، واعتبر أن الرواية كانت بلا هوية؛ بل إنها كانت منطقة سردية يتنازع فيها أسلوبان رائعان لكاتبين متميزين؛ لكن قارئها كما يرون لا يستطيع أن يذهب مع أحد الأسلوبين بعيداً.
ورغم أن نقاداً رأوا فيها تجربة فريدة ورائعة من نوعها، كما يُنقل مثلاً عن الناقد العراقي عبدالواحد لؤلؤة، الذي كان أكثر النقاد معايشة لظروف وطريقة كتابة تلك الرواية بحكم صداقته للكاتبين، وبحكم أنه كان هو القارئ «المشترك» والصلة بينهما في الكتابة؛ بحيث كان يطلع على الصفحات التي يكتبها جبرا قبل أن يرسلها إلى منيف، ويرى لؤلؤة أن الرواية كانت متسقة الأسلوب تماماً، ولا يمكن البتة تمييز أسلوب منيف عن أسلوب جبرا فيها، رغم معرفته هو الدقيقة بأسلوب كل واحد منهما.
إن تجربة «عالم بلا خرائط» تجعلنا لا نثق تماماً في أن الكتب المشتركة التأليف تجعل القارئ مشتتاً، وتجعلنا نتساءل أكثر: هل يتعلق الانتقاص من تلك الكتابة من طرف البعض بنوع معين من تلك الكتب؟، في مجال العلم أو الأدب؟، بمعنى هل يعد الأمر خارجاً عن التجربة الكتابية المشتركة نفسها ومتعلقاً بالقدرة على تنفيذها، أم أن الموضوع هو ما يحدد مدى قدرة الكتّاب على تنفيذ كتاباتهم المشتركة؟، وهل يمكن تفسير ذلك الكلام على الكتاب العلمي المشترك الذي سبق في مقدمة هذا النص، بأنه تعبير عن افتراض ذهني مسبق، مرده عند بعض النقاد والمهتمين بهذا المبحث، التهيب من استسهال الكتابة الأخرى المشتركة، أي الكتابة في مجال الأدب؟، أو محاولة منهم للقول إن الكتب الإنسانية ( دعونا نسمي تجاوزاً الكتب التي ليست علمية بحتة بالكتب الإنسانية) هي تأليفات من المستحيل أو من الصعب على الأقل أن تخضع لأمزجة متعددة ولأفكار، وسرديات ومشاعر وتجارب أكثر من مؤلف واحد، هل نحن أمام نوع من التطهير النرجسي للكتب الأدبية يمارسه بعض النقاد على حساب الكتب الأخرى؟.
يحتاج الأمر هنا لاستعراض تاريخي لظهور الكتابة المشتركة وتطورها والمجالات التي خاضت فيها.

تاريخ طويل

يُنقل عن مؤلف كتاب قصة الحضارة الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي ويل ديورانت حديثاً عن أصول الكتاب المشترك، وهو يرى أنه قديم جداً ويقول: (أقدم الروايات الصينية رواية شوي هو جوان أو قصة حواشي الماء التي ألفها رهط من الكتّاب في القرن الرابع).
يرى باحثون آخرون أن الملاحم والأساطير اليونانية كالإلياذة والأوديسة وغيرهما كانت تأليفاً مشتركاً بين مجموعة من الناس إلى أن أتى شاعر مثل هوميروس فدونها ونظمها من خلال الشعر.
وفي عصور التدوين الأولى في الحضارة العربية كذلك وفي القرن الرابع الهجري كتب إخوان الصفا رسائلهم المعنونة ب«رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء».
وفي العصر الحديث ظهرت الكتابة المشتركة في إطار الحركة السريالية في الأدب، حين وضع الشاعران اندريه بروتون وفيليب سوبو كتابهما المشترك الشهير (الحقول المغناطيسية)، واستندا في ذلك على مقولة للشاعر الفرنسي لوتريامون والذي يقول: (يجب أن يكتب الشعر من الجميع، لا من واحد). وفي الكتابة العربية الحديثة تجارب تعود إلى منتصف القرن العشرين الماضي، يتحدث عنها بعض النقاد، مبرزين أن طه حسين وتوفيق الحكيم كتبا معاً رواية (القصر المسحور) سنة 1936، وأن أربعة من الكتاب العراقيين؛ وهم منير أمير وعبد الله حبة وعبد الله حسن وعبدالله جواد، أصدروا عام 1956 مجموعة قصصية مشتركة هي (الحصان الأخضر) قام كل اثنين منهم بكتابة قصة واحدة منها.
وإضافة إلى رواية عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا «عالم بلا خرائط» (1982)، ظهرت كذلك تجارب أخرى في لبنان مثل «ربيع المطلقات» لنزار دندش ونضال الأميوني، و«يوميات آدم وحواء» لنزار دندش ونرمين الخنسا، و«ملك اللوتو» لجهاد بزي وبشير عزام. وفي سوريا كذلك نشر عامر الدبك وبهيجة مصري إدلبي روايتهما «ألواح من ذاكرة النسيان» عام 2002، وكتب عبد اللطيف الحسيني وغسان جانكير مؤلفهما «في رثاء عامودا»، وفي العراق: أصدر العراقيان صبيحة شبر وسلام نوري روايتهما المشتركة «الزمن الحافي»، وفي السنوات الأخيرة صدرت روايات جديدة ضمن نفس نمط الكتاب المشترك من بينها رواية «في مقام العشق» و«العالم على جسدي» للمصريين يوسف نبيل وزينب محمد، و«أنا الآخر» للبنانية سونيا بوماد والإماراتي محمد سيف الأفخم، و«رولر كوستر» لمحمد جمال وهيثم نصار، وفي بداية عام 2018 صدرت «خطايا آدم» لسامي ميشيل وأحمد مسعد، و«كلارا»، لحنين الحسيني ومنال سالم.
بعد كل هذه الأمثلة على الكتابة الأدبية المشتركة يمكن القول إن معظم المحاولات أو التجارب المكتملة في مجال الكتابة المشتركة اتجهت نحو السرد، والحكاية، ولم تتجه نحو الشعر، وهذا يضعنا أمام تساؤل: لم لا نجد القصيدة الواحدة المشتركة أو الكتاب الشعري المشترك؟، وهناك سؤال آخر يأتي وارداً كذلك: هل تسهم الروابط الشخصية والتجانس بين الكُتّاب على المستوى الإنساني في دفعهم لخوض تجربة تأليف الكتاب المشترك، أم أن الأمر ممكن الحدوث بين أي كاتبين حتى ولو لم يكونا أصلاً في مكان وبيئة ثقافية واجتماعية واحدة؟.

مشتركات

بالعودة إلى رواية «عالم بلا خرائط» يرى البعض أن ثمة مشتركات عديدة بين منيف وجبرا جعلتهما يقرران كتابة تلك الرواية المشتركة؛ من بينها العلاقة التي ربطت بين الكاتبين منذ نهاية صيف 1952 حين التقيا في بغداد، ثم تعزز ذلك بلقائهما في السبعينات بعد ذلك، والصداقة التي ربطت بينهما.
إضافة إلى ذلك يرى البعض أن الكاتبين كان يدركان تماماً حين كتابتهما المشتركة أنهما بصدد كتابة تجريبية تتطلب نضجاً معرفياً وهو ما كان يتوفر لهما آنذاك بعد تجارب كل منهما الفردية المتميزة، وبعد اطلاعهما الكامل على كل تاريخ الكتابة المشتركة وتطور الأساليب التي مرت بها، وهو ما مكنهما من تجريب التقارب بين أسلوبيهما المختلفين أصلاً؛ جرّاء المخزون الثقافي والأدبي لكل منهما.
من هنا برزت أهمية الرواية المشتركة بينهما؛ لكونها كانت ستشكل تحدياً تجريبياً على مستوى توحيد اللغة وليس فقط على مستوى توحيد السرد، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أن منيف نفسه كان يرى أن التطور اللغوي في العمل الإبداعي يحتاج إلى جهد جماعي ويقول عن ذلك: «(إن هم اللغة بالدرجة الأولى هو همٌ جماعي، ويجب أن تتكون ورشة من المهتمين والمبدعين من أجل العمل في اللغة؛ لأننا بقدر ما نستطيع أن نثور اللغة، أن نجعلها أكثر مرونة وأكثر قدرة على الاستجابة، نكون فعلاً قد خطونا خطوة مهمة في بناء الرواية ثم المسرح، إن المبدعين هم الصنّاع الحقيقيون للغة، وليست المجامع اللغوية).

كيمياء

الكيمياء الروحية الإبداعية ربما هو مصطلح يكفي لتفسير دوافع الكتابة المشتركة عند العديد من الأدباء، انطلاقاً مما سبق، ولعل حديثاً آخر للكاتب المصري يوسف نبيل في إطار تجربته للكتابة المشتركة مع الكاتبة المصرية زينب محمد يؤكد ذلك فهو يقول: «بدأ الأمر بتنامي تفاهم وبتلاق فكري بيني وبين زينب بطريقة مدهشة، وتطوّرت تقنية الكتابة المشتركة تدريجياً عندنا، في البداية جرّبنا في عملنا الأول «في مقام العشق» ما هو أسهل، كانت الرواية تُروى من وجهة نظر صوتين: بطل - بطلة، فقام كل منا بكتابة أحد الأصوات ثم قمنا بالمزج الأسلوبي بين كتابتينا، ولكن الأمر تطور جداً في التجربة الأخرى وهي «العالم على جسدي»»
وفي رواية «خطايا آدم» كانت الصداقة المشتركة هي الأساس الذي بنيت عليه فكرة ذلك العمل بين سامي ميشيل وأحمد مسعد، والتي تحولت فيما بعد إلى مسلسل عرض في اليوتيوب سنة 2017، وبعد نجاح المسلسل قرر الكاتبان تحويله إلى عمل روائي على شكل كتاب.
«أحلم بزنزانة من كرز» رواية مشتركة عن تجربة ذاتية في السجن لسهى بشارة وكوزيت إبراهيم، امتزجت فيها الشفافية الإنسانية والتوق إلى الحرية والخروج من حدود الزنزانة، بتقديم وثيقة إدانة للمحتل «الإسرائيلي»، ورغم أن الكاتبتان سجنتا مدة مختلفة، فسهى قضت عشر سنوات في المعتقل، أما كوزيت فخرجت بعد سنة واحدة، إلا أن الكتاب المشترك لهما جاء دون تفاوت ولا عدم انسجام في نظرة كليهما للمعتقل، ودون أن ينجح الزمن الطويل الفاصل بين موعد تحرر كل واحدة منهما منه في تغيير النظرة إليه، وإلى الوقائع الثقيلة التي كانت تحاصر إنسانيتهما، وتحاول اغتيالها من قبل محتل غاشم.

سؤال الذات

التساؤل، الذي على قارئ الكتب المشتركة أن يضعه نصب عينيه ليس هو ذاك الذي يبحث عن الفوارق بين الأقلام المتعددة التي صاغت الكتاب، ولا ما هي حدو اختلافها أو انسجامها؛ بل هو سؤال عن الروح الواحدة التي تشكلت ذات لحظة إبداعية بين عدة أرواح لتصنع عملاً مشتركاً، يتوخى أن يقدم رؤية مختلفة لماهية الكتابة نفسها باعتبارها تعبيراً عن الذات، إنه سؤال عن الذات نفسها وهل هي بالحتمية والضرورة لا بد أن تكون ذاتاً فردية؟، إنه سؤال عن القيمة التي تضيفها الجماعية في الفكر مقارنة مع تضيفه مما هو معروف في العمل والإنجاز.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"