افق خليجي ... تأملات في إبداع المرأة الخليجية.. الشاعرة السعودية نموذجاً

بعضه نتاج طفرة عارضة
00:51 صباحا
قراءة 7 دقائق
قبل أعوام وقعت على خبر في مجمع الأمثال للميداني مفاده أن الفرزدق قيل له: فلانة تقول الشعر، فقال: إذا سمعتم الدجاجة تصيح صياح الديك فاذبحوها. منذ تلك المدة وأنا أفتش في شعر المرأة القديمة عن أسباب أقنعت الفرزدق بإلغائها التام، فلم أجد ما يستدعي ذلك سوى رؤية خاصة ربما قصَرت مفهوم الشعر الجيد لديه على المواجهة، والبوح، والإنشاد، وضرورة الارتحال به من مكان إلى آخر؛ لتحقيق مكاسب إعلامية ومادية، وهذا ما لا يتوافر للمرأة الشاعرة آنذاك. وبما أن الشاعرة الحديثة تجاوزت أمثال تلك العقبات انفسح لها المجال إلى حد كبير لتبدأ أُولى مراحل التنافس مع ندها الشاعر الذي استحوذ على قصب السبق الشعري كمّاً وفناً طوال الحقب الأدبية المنصرمة.د. فواز بن عبدالعزيز اللعبونفي هذه الأجواء المحفزة على العطاء تجاوزت الشاعرة العربية عقبات التهيب، فأسهمت في إنعاش الحركة الشعرية في المنطقة عبر ما تنشره في الصحف والمجلات محليّاً وعربيا، أو عبر الإصدارات الخاصة.هذا على صعيد الإنجاز الكمي الذي حققته الشاعرة الخليجية، أما على صعيد الإنجاز الفني فتتجلى تجارب متميزة مقارنة بالبدايات، وثمة مبدعات يُمثلن بجدارة الحركة الشعرية الناضجة في الخليج العربي، إضافة إلى مبدعات أخريات ابتعدن عن الأضواء، واكتفين بما ينشرنه في وسائل الإعلام المختلفة من حين إلى آخر.ومع ذلك فسيلحظ راصد الحركة الشعرية المتصدرة أو المُصَدرة تفاوتاً واضحاً في المستويات الفنية بين الشاعرات، وسيعي حتماً أن بعضهن نِتاجُ طفرة عارضة.لذلك وغيره بدا لي أن أكشف القناع بحياد تام عن عمق شاعرية المرأة العربية في الرؤية والبناء من خلال أطروحتي الأكاديمية (الدكتوراه) التي عرضت للشاعرات الخليجيات، متخذة الشاعرة السعودية نموذجا.وقد وقفت على قدر لا بأس به من إنتاج الشاعرات الخليجيات المؤهل للدراسة لغويّاً وإيقاعيّاً من خلال ما يقارب ثمانين إصدارا، وستين شاعرة، وعلى ما يقارب ذلك في المقدار مما هو منشور في وسائل الإعلام المختلفة والشبكة العنكبوتية، وكان حظ الشاعرة السعودية من هذه النسبة ما يوازي النصف.ولقرب العوامل المشتركة بين الشاعرات الخليجيات اجتماعيّاً واقتصاديّاً وجغرافيّاً اكتفيت بالشاعرة السعودية نموذجا، على أمل إنجاز دراسة أخرى موسعة ترصد بدقة إنجاز الشاعرات الخليجيات قُطراً قطراً.ولعل أبرز ما جلوته في أثناء الدراسة والبحث يمكن إيجازه عبر النتائج الآتية:1- قتامة الرؤية في معظم مضامينهن هي الملمح الأبرز؛ فالخوف والاضطراب والإحباط والحرمان مفردات معنوية غزيرة الحضور في نصوصهن، وبالأخص لدى التحديثيات.2- طفولية الرؤية ملمح آخر اشتملت عليه جملة من نصوصهن، وبخاصة المحافظات؛ إذ تدور رؤاهن تلك في فلك الأحلام الوردية، والأمنيات العذبة البريئة، وهن في أثناء ذلك يمزجن بين المأمول واستحالته، فما يلبثن أن يفزعن إلى شجوهن المحبب.3- نظرة أكثرهن إلى الحياة ساخطة، وليس ثم ما يحفزهن إلى التأقلم مع الواقع، أو استشراف مستقبل حقيقي مشرق.4- انطواؤهن على مفردات ذواتهن في جملة من مناحي وجدانياتهن وتأملاتهن، ومن القليل أن يُشركن مفردات خارجية يبادلنها الألم أو الاستغراق.5- اختزالهن الطبيعةَ في مفردات شبه محددة ومقررة؛ كالليل، والنجوم، والطيور، والورود.6- تناقض بعض رؤاهن على مستوى مجموعة النصوص للشاعرة الواحدة، أو على مستوى النص الواحد؛ فقد تطمئن شاعرة إلى انتماء في مجموعة نصوص، وما تلبث أن تثور عليه في نصوص أخرى، والليل الذي كان سميرها في بعض النصوص يتحول إلى شبح مرعب في بعضها الآخر، وقد تحب في أول النص، وتكره في آخره، أو تسْعَد فيه بإنجازٍ ما، وفي آخره تنقلب سعادتها بؤساً وشقاء.7- الرجل عدا الأب في كثير من مضامينهن إما خصم لدود، أو مراوغ ماكر، أو انتهازي شرس، أو منافس مغرور.8- صورة الرجل المثالي (الرجل الحلم) صورة خيالية يفترضنها أولا، ثم يتعاملن مع معطياتها في معظم مضامينهن الوجدانية.9- المرأة الأخرى عدا الأم ندّ مسالم لا يبادلنها الوداد، ولا يبادئنها الخصام، ولكنهن يتحفظن من إبرازها في جل مضامينهن، ولا يستحضرنها إلا لدواع اجتماعية ضيقة.10- ندرة إفصاح مضامينهن عن أيّ جانب من جوانب أحوالهن الأسرية، وأوضاعهن الاقتصادية. أبرز نتائج البنية الفنية 1- دأبُ معظمهن على تطوير تجاربهن الفنية، والمضي بها قدُما، وسرعة الانتقال بها من طور إلى آخر.2- الصدق الانفعالي هو العنصر الأبرز الذي يتكئن عليه في بناء نصوصهن، ويحدث أن يتوالد النص بإيعاز منه من دون أن يحتفل كثير منهن بالمتطلبات الفنية الأخرى.3- مسايرتهن إيقاع العصر، ويبدو ذلك من خلال قِصَر معظم نصوصهن، ولدى بعضهن يكشف قِصَر النصوص عن قصر نفسهن الشعري.4- في أكثر نصوصهن المطولة عمودية وحرة تتوالد رؤية النص الرئيسة في مقطع واحد، ثم تعيد إنتاج نفسها من جديد في مقاطع عدة، ولكن بصياغات أخرى، وسياقات مختلفة.5- الوحدات الفنية من أبرز ما أجدن التعامل معه في بنية النصوص، ويظهر ذلك لدى المحافظات في نصوصهن العمودية والحرة، أما التحديثيات فمعظم نصوصهن يصعب الاحتكام فيها إلى وَحْدة؛ لقابليتها للكثير من الدلالات المؤولة.6- ارتكاز التحديثيات على آلية الاستدعاء، وتنويع مفرداته بين الأدبي والتاريخي والسياسي والأجنبي.7- كثرة المآخذ اللغوية نحواً وصرفاً ودلالة في أغلب نصوصهن.8- توظيفهن المفردات القريبة الواضحة، ومن القليل أن يوظفن مفردات غامضة.9- تواضع المخزون اللغوي لدى أكثرهن؛ حيث انعكس ذلك على شح بدائلهن اللفظية، وانكفاء بعضهن على مفردات وقفية ترددتْ في الكثير من نصوصهن.10- فوضوية البنى اللغوية على مستوى المفردة والجملة لدى عدد من التحديثيات، ومحاولات بعضهن غير الموفقة في الابتكارات الاشتقاقية والتركيبية.11- قلة احتفائهن ببنى اللغة الصوتية، أو ما يعرف بالموسيقى الداخلية، وبخاصة التحديثيات اللائي انتظر منهن أن يعوضن بها عن إيقاع القافية، وانتظام التفاعيل.12- ندرة الابتكار والتجديد في المعاني والصور لدى معظم المحافظات.13- سريالية التصوير في كثير من نصوص التحديثيات؛ وذلك عبر إحالتهن المشاهد التصويرية إلى لوحات متداخلة الخطوط والألوان.14- وفرة الحقول الدلالية لدى التحديثيات، وتنوع مساراتها في جل العناصر الفنية.15- جنوح كثير من التحديثيات إلى الرمزية الموغلة في المضامين التأملية والاغترابية، وجنوحهن إلى الرمزية المعتدلة في المضامين الوجدانية.16- ميل جملة منهن إلى كل آلية شعرية تقترب من آليات السرد، ويظهر ذلك من خلال تفعيل الحوار في النص بين شخصيات حقيقية، أو بين الشاعرة وذاتها، وأحياناً بينها وبين إحدى مفردات الطبيعة، كما يظهر ميلهن ذاك عبر بنية النص القصصية؛ سواء انتظمَت القصة كامل النص، أو جزءاً منه، وقد يكشف عن ميلهن أيضاً تفضيلهن النظم على بعض الأوزان القريبة من النثر، وأَدَل من ذلك كله انقطاع عدد منهن عن الشكل العمودي بعد أن وجدن أنفسهن في الشكل الحر.17- ضعف حسهن الإيقاعي في التعامل مع الأوزان؛ إذ وقعت كل منهن كثيراً أو قليلاً في مختلف عيوبها، فكسرن بحورا، وزدن من تفاعيلها في الشكل العمودي وأنقصن، وخرجن من بحر إلى آخر اشتباها، ولم يميزن بين الزحافات المقبولة والقبيحة.18- انعكاس نزعتهن الفطرية في التأنق والظهور بمظهر حسن على جملة من نصوصهن الحرة؛ إذ وظفن فيها الفضاء التشكيلي، وأضفن إلى إيقاعه ودلالته بُعْداً جماليّاً منظما، فرصفن بعض مقاطع النصوص وسطورها ومفرداتها بطرائق أنيقة لافتة. وقفة أخيرة وهي لفتات أوجهها للنقاد والباحثين والدراسين وللشاعرات أيضا:1- استجلاء خصوصية الرؤية والبنية لدى الشاعرات في دراسة مستقلة موسعة، فقد زادني البحث يقيناً بأن لإبداع المرأة سمات مشتركة ومتقاربة تختلف بشكل أو آخر عن سمات إبداع نظيرها الرجل، وهذا ما عرضت لما أَمكن منه، وبقي أن تُسْبر هذه الخصوصية بتفصيل بعد مقارنتها وموازنتها بإبداع مجايليهن من الشعراء.2- ثمة شاعرات رسخت أقدامهن في الشعر إبداعاً وتميّزاً وتأثيراً، وأخريات ما زلن يبحثن عن مكان، ويسرن إليه بخطى مضطربة، وهذه جملة رؤى قد تنهض بإبداع من يحتاج منهن إلى مزيد نهوض، أو إلى توجيه طاقات فنية لم يوظفها بعضهن في تجاربهن بشكل أفضل:أ- إدراك أن الشعر جنس أدبي من جملة أجناس أدبية فاعلة، وأن متطلباته أكثر تعويقاً وصرامة من سواه، ولذا فإن البحث عن الجنس الأدبي الأنسب لتجارب المبدع ومعطياته يعني المزيد من العطاء الموفق.ب- تنمية الموهبة الشعرية بالقراءة الدائمة والاطلاع، وبخاصة في مصادر التراث، والتجارب الأدبية الناجحة.ج- عرض النصوص على ذوي التخصص؛ للإفادة من آرائهم وتوجيهاتهم.د- مراجعة النصوص بعد الانقطاع عنها مدة زمنية، ومن شأن هذه المراجعة أن تضيف وتغير وتلغي، وذلك بعد أن يتبين الشاعر ما كان غائباً عنه، أو يوظف ما أفاده من اطلاعه، وتجاربه الجديدة.ه- التأني في النشر، وتصور أن ما ينشر سيكون وثيقة أبدية في سجل التجربة الخاصة، والأدهى من ذلك المسارعة في نشر ديوان لم تتشكل ملامح تجربته الإبداعية.و- الثقة بطور التجربة الإبداعية الحالية، والسعي في تنميتها، وعدم الاكتراث بتيارات (الموضات) الأدبية.ز- الانتقال من تجربة إلى أخرى بعد أن يجد المبدع في نفسه قبولاً إبداعيّاً لها، وقناعة حقيقيّة من قدرته على تحقيق متطلباتها.ح- تحميل الإبداع همّا، وتضميخه برسالة؛ إذ إن الشاعر المستغرق في ذاته ينغلق عليها، ومن ثم ينتج لنفسه فحسب.3- وهي توصية أخيرة ألتمس فيها من أساتذتي النقاد والأدباء والدارسين أن يتحروا الموضوعية والحياد والإنصاف حين يتعاملون مع من يغرهن الثناء، وذلك لبعض ما وجدت في عدد من البحوث والدراسات والمقالات من مجاملات وتطبيل وتضليل في حق شاعرات ومتشاعرات ودخيلات هن أحوج من ذلك كله إلى مكاشفة هادئة، وتوجيه سديد، وحزم رحيم، اوَمَنْ يَكُ حَازِماً فلَيَقْسُ أَحْياناً عَلَى مَنْب يُنْتَظَرُ عطاؤه.الفردوس المفقود العالم ليس عالمهن، ويعانين فيه الوحشة والاغتراب، ويحلمن بفردوس مفقود يقررن بدءاً أنهن لن يجدنه، فيغلقن أبواب الأمل والتفاؤل؛ ليظل الشقاء أبديّا. هموم المجتمع وقضاياه العامة شبه غائبة لدى الشاعرات التحديثيات، وقد استعضن عن ذلك بمعالجة الهم الاجتماعي الخاص من منظور فردي عرضتْ فيه كل شاعرة منهن ما يعنيها وحدها، أما الشاعرات المحافظات فقد تناولن هذه الهموم بشكل مُرْض، كما سجلن حضورهن في كثير من المناسبات الاجتماعية. تطرف رؤاهن في الحب والبغض والحزن والانتماء، وقلما ينحين إلى ذلك منحى معتدلا، فضلاً عن أن يكون متفائلا.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"