الأدب على تخوم المسالك والممالك

03:40 صباحا
قراءة 5 دقائق
** القاهرة:‏ مدحت صفوت

الإنسان كائن مرتحل، وتاريخ الإنسانية سجل من محاولات التعرف ثم السيطرة على العالم الخارجي، من حوله، وقد قاوم أولاً القوى الحيوانية التي تحول بينه وبين هذه السيطرة، ثم القوى الإنسانية، فتكونت القبيلة والأمة، واندفعت من إقليمها إلى الأقاليم المجاورة تكتشف آفاقاً جديدة. إذاً، في البدء كانت الرحلة، ومع معرفة التوثيق بدأت البشرية تسجل وتدون مشاهدها، وعرف اليونانيون مجموعة من الرحالة أشهرهم «هيرودوت» الذي زار مصر وقبرص وفينيقيا وآشور وإيران، وتوغل في الشمال إلى البوسفور، وأودع مشاهداته في هذه الزيارات أو الرحلات في تاريخه الكبير.
سبق اليونانيين المصريون القدماء، إذ سجل ملوك مصر رحلاتهم في آسيا، وعلى جدران معبد الدير البحري في مصر العليا تصاوير بديعة لسفن الملكة حتسبشوت من ملوك الأسرة الثامنة عشرة، وهي عائدة من رحلتها إلى بلاد «بونت» في الجنوب، كما دون المصريون رحلة 1493 قبل الميلاد، التي تعد من أقدم الرحلات التجارية والإثنوجرافية على الإطلاق، حين أبحر في النيل صوب جنوب مصر أسطول مكون من خمسة مراكب بهدف تسويق بضائعهم النفيسة التي شكلت البخور والعطور.
ولم يكن الكتاب والرحالة ببعيدين عن هذا، فقبل الإسلام، نقرأ عن رحلتي الصيف والشتاء التجاريتين إلى الشام واليمن، ورددوا الأحاديث عن رحلات إلى البلاد كافة، كمصر وفارس، فضلاً عن رحلاتهم إلى الساحل الغربي من الهند والساحل الشرقي من إفريقيا.
كما اتصل العرب والمصريون بالشرق الأقصى قبل الإسلام؛ وكانت التجارة بين الصين والهند ومواني البحر الأبيض في يد العرب، واتسعت هذه التجارة في القرن السادس الميلادي بطريق جزيرة سرنديب، وزاد اتساعها في القرن السابع، وأصبح ثغر سيراف على الخليج الفارسي مركزاً لتوزيع البضائع الصينية في إيران وبلاد العرب. وذكر المسعودي أن السفن الصينية كانت تدخل في نهر الفرات إلى الحيرة. أما تجارة الحرير بين الصين، وروما، وبيزنطة، فكانت تمر بإيران وبلاد الجزيرة آتية من وسط آسيا، وظلت هذه التجارة في يد الإيرانيين قروناً عدة.
ومع نشأة الحضارة الإسلامية، وانتشار الدين في أرجاء الخلافة جميعها، بجانب تسيير السفر بعد أن اهتمت الدول الإسلامية مبكراً بحركة البريد، مهدت الطرق وأقامت عليها معالم تبين المسافات، الأمر الذي نتبينه في كتاب «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» لشمس الدين المقدسي، فضلًا على تيسير الإقامة، إذ تشيد أكثر الرحلات بمواقف الشعوب من الغرباء الذين يعبرون بهم، أو يقيمون بين ظهرانيهم مدداً محدودة.
وفي كتاب «مشاهير الرحالة العرب» يستعرض كمال بن محمد الريامي الجهود العربية، وما خلفته من آثار، ونتاج غزير في مجال أدب الرحلات، وإن اشتركوا مع غيرهم من الأمم فيه، فقد كان للعرب فيه القدح المعلى، والنصيب الأوفى، وحققوا فيه قصب السبق بين سائر الأمم، بيد أننا نتوقف في هذا التقرير أمام الأدبيات التراثية التي اعتنت برسم الخرائط للأقطار الإسلامية، أو لغيرها من الأمصار.
ويتفق الدارسون لتاريخ أدب الرحلات العربية، في تكوين الجغرافيين العرب مدرسة خاصة بهم، تتسم بطابع الأمانة العلمية باعتمادها الرحلة سبيلاً في توثيق المعلومات، فعرّفوا العالم، شرقه وغربه، في أقطار الدولة الإسلامية خاصة، ووصفوها أحسن الوصف وأدقه، وأرسوا بذلك قواعد الجغرافيا الوصفية والدراسة الميدانية التي تطورت فيما بعد.

تقسيمات

وانقسمت الرحلات الجغرافية العربية إلى رحلات اعتنت بأقطار العالم الإسلامي كافة، لوصف بلدانه وجغرافيته وأهله، والمزج بين الجغرافيا الوصفية والعلوم الأخرى، مثل التاريخ وعلم الإنسان واللغة وعلوم الدين، ورحلات ثانية متخصصة في قطر واحد جغرافياً وعمرانياً وإنسانياً، كالهمذاني في كتابه «صفة جزيرة العرب». كما عرف الرحالة العرب الرحلات التاريخية أكثر منها الجغرافية والإنسانية، والتي عني أصحابها بالجانب التاريخي وتدوين القصص والأخبار أكثر من عنايتهم بوصف المشاهدة المباشرة، وخير مثال لها المسعودي في كتابه «التنبيه والإشراف». كما عرفوا الرحلات الإنسانية التي تهتم بوصف عادات الناس، وسلوكهم والتحليل الدقيق لما يرصد، والتوقف أمام ملامح علم الإنسان وبذوره، ومثالها رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والخزر، والصقالبة.
وفي رؤيتنا، أنه من الجدير أن نبدأ بأشهر الجغرافيين العرب، ألا وهو أبو إسحق إبراهيم بن محمد الفارسي الاصطخري، ويُعرف في بعض الأحيان باسم الكرخي، وترجع تسميته إلى اصطخر بفارس، زار معظم البلاد الإسلامية وألّف كتابه «المسالك والممالك» بناء على مشاهداته، الذي تميز بكثرة الخرائط التي استخدمت كوسائل للإيضاح، فسُميّ «دليل الرحالة الجغرافي»، كما درس الأراضي وأبعادها ومراكز العمران فيها، ووصف المسطحات المائية في العالم والحدود والمساحات، فكان أول من قسّم الأرض عشرين جزءاً، منفصلًا بذلك عن بطليموس.
ويقودنا الحديث عن الاصطخري بطبيعة الحال إلى علمين آخرين من أعلام الرحلة في القرن الرابع الهجري، هما البلخي ت «307ه»، وابن حوقل ت «336ه» إذ يعد الأول «رائد مدرسة البلدانيين الخرائطيين» المساهمين في أطلس الإسلام، وأرسى بذلك أساس سلسلة جديدة من المؤلفات الجغرافية المشتملة على خرائط، وألف كتابه «المسالك والممالك» الذي تضمن الأشكال أو صور الأقاليم، لكن لم يصل إلينا مضمونه إلا برواية الاصطخري، ويبدو ذلك من الاسم المشترك للرحلتين. فيما يشير إغناطيوس راتشكوفسكي في «تاريخ الأدب» إلى أن بعض المخطوطات التي نُسبت في فهارس المخطوطات، أو حتى في الأصل إلى البلخي، إنما تمثل في الحقيقة مسودات لمصنف الاصطخري، أو ابن حوقل، فربما كانت رحلة البلخي وهمية، أو أنها حقيقية إلا أن المعلومات وافية عن صاحبها.
ومن الاصطخري يأخذنا الحديث عن ابن جبير، وكتاب «رسالة اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك» المعروف ب«رحلة ابن جبير» المتوفى 614ه، وأهميتها تكمن في العصر الذي جرت فيه، وتدور بين عامي 578 و581 ه، قبيل وقوع موقعة حطين 583ه، واستعادة بيت المقدس.

خطاب متكامل

وفي ضوء ما كتب عن أدب الرحلات والخرائط، تتسم أطروحة الباحثة نهلة الشقران «خطاب أدب الرحلات» بالجدية والحداثة في تشريح سمات خطاب أدب الرحلات، والوقوف أمام آليَّاته التعبيريَّة التي يصف بها موصوفه، باعتماد الأساليب اللغويَّة الأكثر تكراراً في الرحلات المدروسة، لعرض رؤى الرحَّالة وتطلعاته، جرَّاء تصوير المكان وأهله، مستندا في تحليل الخطاب الرحلات إلى الواقع الخارجي للموصوف، والواقع النفسي للرحَّالة، فكان الربط بينهما وفق أُسُس نظرية الخطاب.
وتوقفت «الشقران» في أطروحتها أمام خمس رحلات هي: «صفة جزيرة العرب» للهمداني، و«التنبيه والإشراف» للمسعودي، و«المسالك والممالك» للاصطخري، و«رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والخزر والصقالبة» لابن فضلان، والمقدسي، بيد أنه لا يغيب على دارس لأدب الرحلات، ومن بينهم الشقران، دور المصريّ الراحل شوقي ضيف وكتابه «أدب الرحلة»، الذي عُد وقتها فتحاً وتأسيساً جديداً في الدراسات التراثية وأدبياتها، ممهداً الطريق من بعده للباحثين العرب، بعدما سلط الضوء على منهجية واضحة في الوقوف على لغة الرحلة وسماتها.
وأنشأ أدب الرحلات خطاباً خاصاً يعد موروثاً تاريخياً، ونتاج الاستعمال الاجتماعي الطويل، وجاء الشكل اللغوي في ثنايا الخطاب، حسبما تذهب دراسة الشقران، وسيلة للتعبير عن الموصوف، فتفاعلت الألفاظ مع المعاني لإيصال مطلب الرحالة، موظفاً تراكيبه اللغوية للتعبير عن «الأنا» والموصوف، وصوغ صورة واحدة منهما، يحمّلها حركة نسقيّة تعلي مكانة «الأنا» والموصوف، وتؤسّس مبدأ اشتراك بينهما حيناً، وتنزع إيحاء التواصل، فتنفي دلالة إيجابية عن الموصوف حيناً آخر. وأن هذا الوصف جاء في بُنى لغوية عادية مألوفة، إلَّا أن تكرارها في أدب الرحلة أعطى وجودها مساحة من التأثير، وخلق مواقف إدراكية في فهمها.

معجم البلدان

يكتسب معجم ياقوت الحموي المعروف ب«معجم البلدان»، مكانة خاصة، في أدبيات العرب التي عملت على رسم الخرائط، إذ توسَّع الحموي في رحلاته منذ عام 610ه، ويقال إنه كان يطالع أكثر من مئتي كتاب في وقت واحد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"